قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
خصيصة من خصائص القرآن الكريم ومزيّة له امتاز بها على سائر الكتب ، فإنّ بشرا على وجه هذه البسيطة لا يمكنه أن يخرج كتابا يسلم فيه من الاختلاف كهذا الكتاب العزيز ، فهو معجز بجميع جهاته بأسلوبه وكلماته ، وبفصاحته وبلاغته ؛ وبأحكامه وآدابه ، وبقصصه وإرشاداته وبأصوله وفروعه ، وبحقائقه وواقعياته ، وغير ذلك ممّا لا يبلغ حدّ الإحصاء ، ويكفي في صدق ذلك أنّ الآية الكريمة تقرّر أنّه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
والمراد من الاختلاف الأعمّ من التناقض في المعنى ، ونفي بعضه بعضا والتفاوت في النظم والأسلوب ، بخروج بعضه عن الفصاحة والبلاغة ونحو ذلك ، وليس المراد بالاختلاف خصوص التناقض كما يبدو لأوّل وهلة ، فإنّ القرآن هدفه واضح ، وهو إثبات الألوهية وعبادة الله الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال ، فهو لم يخرج عن وجهته هذه ، ولكن الاختلاف أعمّ من ذلك ، فهو يشمل جميع المستويات من غير استثناء ، فإنّه يحوي من الإتقان والإحكام في تعاليمه ونصائحه وإرشاداته ما لم يحوه كتاب آخر ، ولو تدبّرت في أيّة ناحية من نواحي الحياة الّتي تمّت بصلة للإنسان ، من التربويّة والنفسيّة ـ بجميع ميادينهما ـ والاجتماعيّة والطبيعيّة وما وراءها ، لوجدته يحوي تلك باتّفاق ولا اختلاف لجانب على جانب آخر ، فهو معجزة من حيث كونه كتابا واحدا يحتاج إليه الإنسان في عصر نزوله ، كما يحتاج إليه الإنسان في العصر الحاضر الّذي يرى نفسه أعقل وأكمل من أمس ، فهو امتداد واحد في الوجود ، وهذا ما لا يتّصف به كتاب آخر ، فإنّ كلّ كتاب يخرج إنّما يفيد في برهة معيّنة من الزمن ، ثمّ يأتي كتاب أفضل آخر ، فتقلّ أهميّة الكتاب الأوّل ، وهذا هو الناموس في السير التكاملي الّذي يسير عليه الإنسان.