وإنّما أمر عزوجل نبيّه الكريم بالردّ عليهم ؛ تزهيدا لهم عمّا يؤملونه ؛ وتبيينا لهم خطأ رأيهم فيه ، فإنّ المتاع الّذي يتمنّونه ويتطلعوا إليه إنّما هو قليل ومتاع مشوب بالضياع ، وهو في القلق الدائم من الحرمان منه ، فلا يكون في هذه الحياة متاع خالص من المنغّصات والمكدّرات ، ففي هذا التعبير أثر نفسي كبير لمن تعلّق حسّه بهذا العيش الدنيوي ، فإنّه مهما طلب المزيد فإنّ هناك عيشا آخر أكبر ممّا بين يديه وأوسع وأشهى وأبعد من المنغّصات ، ولا يكون مشوبا بالحرمان ، ولمثل ذلك يزهد الإنسان عن هذه الحياة ، ويرغب الأجر الدائم في الآخرة.
قوله تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى).
بيان للعلّة في نيل تلك الحياة الحقيقيّة والعيش الهنيء ، وهي التقوى بالعمل بالتكاليف الإلهيّة ، وترك ما يوجب سخطه ، والابتعاد عن ما لا يرضاه.
وإنّما أطلق سبحانه وتعالى (خير) ولم يقيّده بشيء ؛ للبيان بأنّ التقوى خير من جميع الجهات وكلّ ما يخطر على البال ، فهي خير في النوع ، وخير في بعده عن المنغّصات والكدورات ، وخير في دوامه وبقائه ، وخير بأنّه المستقرّ بعد التعب الشديد ، وخير بأنّ فيه القرب إلى الله تعالى والتمتع برضوانه عزوجل ، فلا ينبغي لهم ترك القتال والقعود عن الجهاد والتأخير إلى الأجل القريب لأجل التمتّع بالحياة الدنيا ؛ إعراضا عن ذلك النعيم الأبدي الّذي هو خير من جميع الجهات.
وفي الآية الشريفة كمال الترغيب إلى التقوى ، فإنّها الوسيلة الوحيدة للوصول إلى رضوان الله تعالى والتمتّع بالحياة الحقيقيّة. وفيها التعريض بأنّهم ركنوا الى الداني وأعرضوا عن الخير الحقيقيّ.
قوله تعالى : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
حقيقة من الحقائق الواقعيّة ، فإنّ الّذي يحرم عن متاع من أمتعة الدنيا لأجل سبيل الله تعالى ، لا يضيع جزاءه عند الله عزوجل ، وأنّ الأجر محفوظ عنده بأضعاف مضاعفة ، فلما ذا التحسّر؟! إذ لا خسران ولا ظلم هناك.