وهذا التميز والتعيين فرع ثبوت ذلك المتميز المتعين ، وتقرره إمّا في الذهن ، أو في الخارج ، أو في نفس الامر ، أو مساوق له ؛ إذ المراد بالثبوت والتقرر هو كون الشيء في حدّ نفسه متميزا عمّا سواه ، ومتعينا بحيث يصحّ الحكم عليه بأنّه هو.
ولعل مثل ذلك هو المراد ممّا نسب إلى أهل المعرفة من القول بالاعيان الثابتة في علم الحقّ ، فان العلم يقتضي تعين المعلومات وتميزها بحدودها ومقاديرها مع أنّها لم تتصف بعد بالوجود ، ولم توجد في الاعيان. وهذا المعنى ظاهر إذا أريد بالعلم هو حقيقة اسم العليم ، والعلم المخلوق المنسوب إلى الحقّ نسبة الفعل إلى الفاعل ، والكلام إلى المتكلّم ؛ إذ عند ظهور ذلك الاسم لا بدّ وأن يتعيّن المعلومات في ظلاله وبتبعيّته معرّاة عن الوجود ، وإلا لم يكن علما بها ، ولا صحّ وصفها بأنّها معلومات به.
والمفروض أن ذلك العلم محيط بالاشياء كلّها : «لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض ولا في السماوات» (١) ، وقد (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ)(٢) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ)(٣) ، وذلك العلم متقدّم في الوجود على الاشياء الموجودة مع شمولها لأولها وآخرها ، فلا بدّ من أن تكون متعينة متميزة في نفس الامر بتبعيّة ذلك الاسم الحقيقي ؛ إذ القدر الثابت من عدم تميز الاعدام هو أنّ الاعدام لا تتميّز بأنفسها ، ولكنّها تتميز مقيسا إلى وجود موجود وتبعا له ، بحيث يصح الحكم عليه وبه ، ويتعلّق به الادراك في حدّ نفسه ، لا أن التميز يحصل في الذهن عند وجود ذلك العدم الخارجيّ في الذهن وتصوّر الذهن له. فانّ التحقيق أنّ الذهن
__________________
(١) مأخوذ من آية ٦١ من سورة «يونس» ، وآية ٣ من سورة «السبأ».
(٢) طه / ٩٨.
(٣) البقرة / ٢٥٥.