نفسه ، أو فصّلنا بين الموارد في ذلك ، وجعلنا لكلّ منها موردا خاصّا ، كما هو المختار ؛ إذ لا يخلو الذهن على كلّ تقدير من كونه تابعا للواقع ، فما لا واقع له لا وجود له في الذهن؟ ألا ترى أنك لا تتصور بذهنك وإن أجهدت نفسك ، وبذلت مجهودك أمرا ، إلا بالتفاتك إلى شيء رأيته أو سمعته أو أدركته من الامور الواقعية العينية ، بحيث لو لا ذلك الالتفات لم يتأت لك ذلك التصور ، ولم يحصل لك تلك الصورة؟
نعم ، بعد ملاحظة ذلك الامر الواقعي ربما يتصرف المتخيلة في عدّة أمور متصورة بضم وتفريق وغيرهما ، فيحضر عندك صورة لها مركبة ليست متحققة في الواقع على هذا التركيب ؛ لكنّ الموجود في الذهن ليس إلا نفس البسائط المتحققة في الواقع ، وفرض الاجتماع فيها محض تصرف للمتخيلة ، وتعمّل لها. وليس ذلك التصرف أمرا ممتنعا ، بل أمر ممكن موجود في الذهن بنفسه ، وليس في ذلك ناظرا إلى الواقع أصلا. فالمتصور من حيث هو موجود في الذهن ليس أمرا ممتنعا ، ولا مصداق له بحسب الواقع ، فهو شيء بحسب الذهن فقط ، وهو موجود والله قادر على إيجاده فيه ، وليس شيئا بحسب الواقع ، وبالنظر إلى الموجود الخارجي حتّى يخصّص به عموم الشيء في نحو الآية.
فان قلت : لو لم يكن للموضوع في تلك القضايا حكاية عن الواقع ، فكيف يحكم عليه بتلك الاحكام الّتي يحكم عليه بها بالقياس إلى الواقع ، مع أنّك قد ذكرت أنّ الذهن في نحو هذه القضايا مرآة للواقع وحاك عنه؟ وما المناط في صدق تلك القضايا وكذبها؟
قلت : المحكيّ عنه في تلك القضايا هو محدودية عالم الامكان ، ونفي الامكان والشيئيّة والتقرر عن تلك المفاهيم المخترعة ، وأنّه ليست بأشياء وبممكنة ، ولا لها تميز وثبوت ، كما أنّ توصيف الحقّ سبحانه بسبب صفات الامكان والحوادث