__________________
ـ ومنه نسخ الحبس في البيوت الثابت بقوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بإقامة الحد وهو : إما الجلد ، أو الرجم .. روى البيهقي في سننه ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : «كانت المرأة إذا زنت ، حبست في البيت حتى تموت ، فأنزل الله بعد ذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإن كانا محصنين ، رجما ، فهذا السبيل الذي جعل لها». وقد روي هذا بطرق كثيرة ، ولا شك أن الحبس في البيوت أهون من الرجم الذي يموت فيه بيقين ، والجلد الذي قلّما يبرأ منه الإنسان ؛ هذا هو القول الصحيح المعول عليه. وأما ما ذهب إليه العلامة البيضاوي : من عدم نسخ هذه الآية ؛ لاحتمال أن يكون المراد من قوله : «فَأَمْسِكُوهُنَّ» : التوصية بإمساكهن في البيوت بعد الجلد ، حتى لا تكون عرضة للرّجال ، فيجري عليهن ما جرى بسبب الخروج ، ولم يذكر الحد ؛ اكتفاء بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الخ ـ فمجرد احتمال ، وهو لا يعارض قول الصحابي ؛ لأنه حجّة في أخبار النسخ.
ومنه نسخ التخيير بين الصوم والفدية المدلول عليه بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) بتخيير الصوم المدلول عليه بقوله تعالى : «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» ؛ روى الشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والدارمي ، والحاكم ، والبيهقي عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من شاء منّا ، صام ، ومن شاء ، يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
ومنه نسخ إباحة الخمر ، ونكاح المتعة ، ولحوم الحمر الأهلية بتحريمها.
ومنه نسخ كون الحج مندوبا ؛ بكونه فرضا ، وإباحة تأخير الصلاة عند الخوف ؛ بوجوب أدائها في أثناء القتال ، وكل ذلك نسخ بالأشق والأثقل ، وتقرير الدليل على هيئة قياس منطقي هكذا : لو لم يجز نسخ الحكم بما هو أشق أو أثقل ، ما وقع ، والثاني وهو عدم الوقوع باطل ، فبطل المقدم وهو عدم الجواز ؛ فثبت النقيض وهو الجواز المطلوب ، أما الملازمة فبديهية ؛ لأن الوقوع فرع الجواز ، وأما الاستثنائية فدليلها ما تقدم من قولنا : ما ثبت. ومن قالوا بالمنع قالوا : «أولا» النقل من الأخف إلى الأثقل أبعد من المصلحة ، وكل ما كان أبعد من المصلحة لا يجوز التكليف به ؛ فضلا عن وقوعه ، فالنقل من الأخف إلى الأثقل لا يجوز التكليف به ؛ فضلا عن وقوعه ، دليل الصغرى : أن تكليف المكلف بما هو أشق ليس من مصلحته ، والكبرى ضرورية.
ويردّ على هذا الدليل النقض الإجمالي ؛ فإنه يلزمه في أصل التكليف ؛ فإنه نقل من البراءة الأصلية إلى ما هو أثقل ، فينبغي ألّا يجوز ، لكنه جائز اتفاقا .. ويدفع هذا النقض بأن البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا ، حتى يكون التكليف نقلا منها ، والكلام فيه فإن قلت : ليس في النقل شناعة إلا لأجل إيقاعه في العسر بعدما كان في اليسر ، وهو متحقق ههنا ، فينبغي ألّا يصح ؛ فانتفى الدليل.
قلت جوابا عن هذا : بأنه لم يكن هناك يسر من الشارع ، وإنما كانت البراءة للجهل بالمصالح ، فإذ قد تفضل الحكيم فكلف على حسب المصالح ، فلو نقل من اليسر الثابت منه ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإن اليسر كان من الشارع الحكيم.
والحق في دفع الدليل وإبطاله .. الحل ، وذلك يكون بمنع الصغرى وعدم تسليمها ؛ إذ لا يبعد في النقل من الأخف إلى الأثقل ، فقد يكون الأثقل بعد الأخف أصلح للمكلف ، والحكيم يكلّف على حسب المصالح ؛ تفضلا منه علينا لا وجوبا ، كما يقول بذلك المعتزلة.
وثانيا : قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ، وقال تعالى في آية أخرى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ووجه الاستدلال بالآيتين : أن التكليف بالأثقل بعد الأخف غير مراد لله ـ تعالى ـ ، ـ