وعلى جواز النسخ قبل الفعل (١) ، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى أن الزيادة على النص نسخ ، وعلى حسن التكليف ثانيا لمن عصى ولم
__________________
ـ وكل ما هو كذلك لا يجوز التعبد به ، فالتكليف بالأثقل لا يجوز التعبد به ، دليل الصغرى الآيتان ، والكبرى ضرورية.
وقد أجاب بعض الأصوليين عن هذا الدليل بأنه : ليس المراد من التخفيف واليسر الواردين في الآيتين التخفيف واليسر في الدنيا ، وإنما المراد : التخفيف واليسر في الآخرة ؛ فالتخفيف تخفيف الحساب في الآية الأولى ، واليسر تكثير الثواب في الآية الثانية ناقلا «والسياق أكبر مؤيّد لهذا المراد» ولكن بالرجوع إلى سياق هاتين الآيتين ، وجدنا أن هذا الجواب خاطىء ؛ فإن الآية الأولى سيقت في معرض التشريع ، فإن الله بعد أن أباح للناس الفتيات المؤمنات إذا لم يستطيعوا طول المحصنات المؤمنات ، وخشوا العنت ـ بيّن أنه يريد هدايتهم سنن الذين من قبلهم ، والتوبة عليهم ، وأنه يريد التخفيف عليهم ، ولا معنى لذلك إلا التخفيف ؛ بالترخيص لهؤلاء العاجزين أن يتزوجوا الفتيات ، وذلك شأن الحكيم في كل تشريع ، فهو يراعي أحوال الضعفاء ؛ رعاية لمصالحهم الخاصة ، كما يراعي المصالح العامة ؛ ومثل ذلك : الآية الثانية ؛ فقد سيقت في معرض الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ، ويقضوا عدة من أيام أخر ، فهي تماثل الآية الأولى ، ومتى علمنا أن مراده ـ سبحانه ـ بالتخفيف واليسر هو هذا ، ضعف احتجاج مانعي النسخ بالأثقل بهاتين الآيتين ؛ لأن موضوعهما الاستثناء من قواعد كلية لمصالح جزئية نسبية ، والكلام الآن في رفع حكم عام وإبداله بحكم آخر ، على أننا لو سلّمنا للخصم ما يقول ، فلا نسلّم أن هناك عموما ؛ فإن من البيّن ، أنه ليس المعنى : يريد الله جميع أنواع التخفيف واليسر ؛ إذ لو كان الأمر كذلك ، لما صحّ التكليف أصلا ، ولا الوقوع في الشدائد ، بل التخفيف أمر نسبي ؛ وكذا العسر واليسر ، ولو سلم العموم في الاثنين ، فمخصوص بثقال التكاليف بالاتفاق.
وثالثا : قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وظاهر هذه : أن الأيسر خير في حق المكلف دون الأثقل ، وتقرير الدليل على هيئة قياس منطقي ، نقول فيه : التكليف بالأيسر فيه مصلحة للمكلف ، وكل ما فيه مصلحة للمكلف لا يجوز استبداله بغيره ، فالتكليف بالأيسر لا يجوز استبداله بغيره ، دليل الصغرى الآية الكريمة ، والكبرى ضرورية.
والجواب عن هذا الدليل : أنّنا لا نسلم أن الأشق ليس بخير ، بل هو خير باعتبار الثواب في الآخرة ؛ كما أن الأخف خير باعتبار السهولة في الدنيا ، فإن الأشق أكثر ثوابا على ما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : «وأجرك على قدر تعبك» ، وقال : «أفضل الأعمال أحمزها» أي : أشقها على البدن.
فإن قلت : قد روي عن ابن عباس حمل الخيرية في الآية على الخيرية الدنيوية في المشقة وعدمها.
قلنا : لو سلم صحته ، فتأويل الراوي لا يكون حجّة إذا قام الدليل على خلافه ، أو نقول المراد الخيرية لفظا في الإعجاز والفصاحة والبلاغة.
(١) إن القائلين بجواز النسخ ، اتفقوا فيما بينهم على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته ، واختلفوا في نسخ حكم الفعل قبل التمكن ، ومعنى التمكن : أن يمضي بعدما وصل الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به ، مثال ذلك : ما لو قال الشارع في رمضان : «حجّوا في هذه السنة» ثم قال قبل يوم عرفة : «لا تحجّوا» فقد ذهب إلى جواز ذلك الأشاعرة ، وكثير من أصحاب الشافعي ، وأكثر الفقهاء ، وعامّة أصحاب الحديث ، ومنع من ذلك : جماهير المعتزلة ، وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي ، وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل.