والقول الثالث : أنّا نقطع بأنه ـ سبحانه ـ يعفو عن بعض العصاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين ، ونقطع بأنه إذا عذّب أحدا منهم ، فإنه لا يعذبه أبدا ، بل يقطع عذابه ، وهذا قول أكثر الأصحاب والتابعين ، وأهل السنة والجماعة ، وأكثر الإمامية ، فيشتمل هذا البحث على مسألتين.
أحداهما : القطع بالوعيد.
والأخرى : إذا ثبت الوعيد ، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين :
أحدهما : صيغة «من» في معرض الشرط.
والثاني : صيغه الجمع. فأما صيغه «من» في الشرط فإنها تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه ، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة «من» في الوعيد ، فقد استدلّت المعتزلة بها.
قالوا : لأنها تفيد العموم من وجوه :
أحدها : أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص ، أو مشتركة بينهما ، والقسمان باطلان ، فوجب كونها موضوعة للعموم.
أما بطلان كونها موضوعة للخصوص ، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط ؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتبا على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره ، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص.
وأما بطلان كونها موضوعة للاشتراك فلأمرين :
الأول : أنّ الاشتراك خلاف الأصل.
والثاني : أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلّا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته ، فيقال له : أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال : أردت الرجال يقال له : أردت العرب أو العجم؟ فإذا قال : أردت العرب يقال له : أردت ربيعة أو مضر؟ وهلم جرّا إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ، ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل.
الوجه الثاني : صحة الاستثناء منهما ، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل (١).
__________________
(١) قال صاحب المحكم في اللّغة : الاستثناء والثنيا : ردّ الشيء بعضه على بعض. قال الجوهري : الثنيا ـ