وخالف أبو الفتح في ذلك وقال : «إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول ، فصار للفظ به شعور وطلب».
وقد أنشد ابن مالك أبياتا كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل (١) ، منها : [السريع]
__________________
ـ «نبئتهم» مجهول بمعنى : أخبرتهم ، والتاء مفعوله الأول نائب الفاعل ، والثاني : الضمير المنصوب ، والثالث : جارهم ، و «هل» للنفي وإلّا بمعنى : غير ، أي : ما يعذب أحد بالنار غير الله ، والشاهد فيه ؛ فإن الكسائي احتج به على أن توسط المفعول ، وتأخير الفاعل لا يجب إذا كان الفاعل محصورا ب «إلّا» ؛ فإن المفعول في قوله : (وهل يعذب إلا الله) يجوز أن يقدّر قبل الفاعل وبعده.
والقائلون بوجوب توسط المفعول ، أجابوا عن نحو ما تقدم من الأبيات ؛ فقدروا قبل «فعل ذي كرم» ـ عاب ـ ، وقبل «بطلا» ـ بنار ، وقبل «ما هيجت» ـ درى ـ ؛ بناء على أن ما قبل «إلا» لا يعمل فيما بعدها في غير الأمور المستثناة ، وقدروا قبل المجرور في البيت الأخير وهو بالنار ـ يعذّب ـ ، فلم يتقدم الفاعل المحصور على المفعول ؛ لأن هذا ليس مفعولا للفعل المذكور.
الثالثة : ـ أن يتصل بالفاعل ضمير المفعول ، نحو : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) ف «إبراهيم» مفعول به متوسط و «ربه» فاعل مؤخّر وجوبا.
وأيضا : فإن قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) فيه «الظالمين» مفعول به متوسط ، و «معذرتهم» فاعل مؤخر.
وإنما وجب توسط المفعول به ؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، لو تأخر المفعول به ، وهو غير جائز عند الأكثرين ، لا في نثر ولا في شعر ، إلا في مواضع منها : ـ ذكر الضمير ثم ذكر مفسره بعده ؛ لغرض التفخيم بذكره مبهما ثم مفسرا ، فيكون أوقع في النفس ، أو لغرض التأكيد بذكره مجملا ثم مفصلا ، فلا يكون هناك لبس ، وليس شيء من هذين مقصودا فيما نحن فيه ؛ لأن المقصود من ذكر إبراهيم ونحوه : أن يكون مفعولا ، وأنت إذا جئت بعد الضمير المبهم بشيء الغرض الأصلي منه التفسير فقط ، لم يبق الإبهام.
وإذا جئت بعده بشيء الغرض الأصلي منه غير التفسير ؛ كالمفعول هنا ـ فلا يكفي في التفسير ؛ لأنه يحمل على ما هو المراد الأصلي منه ، ويبقى الإبهام بحاله.
وأجاز الأخفش ، وتبعه ابن جني ، وأبو عبد الله الطوال : عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، في الشعر والنثر.
واستدل من الشعر بقوله :
جزى ربه عني عدي بن حاتم |
|
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل |
(١) وشذ عود الضمير من الفاعل المتقدم ، وهو «أصحابه» على المفعول المتأخر ، وهو «مصعبا» ؛ لأن فيه عود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وهذا ممنوع عند جمهور النحويين ، وما ورد من ذلك تأوّلوه ، وأجازها أبو عبد الله الطوال من الكوفيين ، وأبو الفتح بن جني ، وتابعهما ابن مالك ؛ وممّا ورد من ذلك قول الشاعر :
لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا |
|
كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد |
جزى ربه عني عديّ بن حاتم |
|
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر |
ويجوز التأويل بأصحاب العصيان ، والأولى تجويز رأي الأخفش وابن جني على قلة ، وليس للبصريين منعه. (حاشية الخضري ١ / ١٦٦ ، الكافية ١ / ٧٣).