في الحقيقة هو المجرور بالباء ، تقديره : ولا تفضوا بأيديكم إلى التّهلكة ؛ كقولك : أفضيت بجنبي إلى الأرض ، أي : طرحته على الأرض ، ويكون قد عبّر بالأيدي عن الأنفس كقوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] لأنّ بها البطش والحركة ، وظاهر كلام أبي البقاء (١) فيما حكاه عن المبرّد : أن «ألقى» يتعدّى بالباء أصلا ك «مررت بزيد» ، والأولى حمله على ما ذكرناه.
والهمزة في «ألقى» للجعل على صفة ، نحو : أطردته ، أي : جعلته طريدا ، الهمزة فيه : ليست للتعدية ؛ لأنّ الفعل متعدّ قبلها ، فمعنى «ألقيت الشيء» : جعلته لقى ، فهو «فعل» بمعنى «مفعول» ؛ كما أن الطريد «فعيل» بمعنى «مفعول» ؛ كأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التّهلكة. والتّهلكة : مصدر بمعنى «الهلاك» ، يقال : هلك يهلك هلكا ، وهلاكا ، وهلكاء ، على وزن فعلاء ، ومهلكا ومهلكة ، مثلّث العين ، وتهلكة ، وقال الزمخشري : «ويجوز أن يقال : أصلها التّهلكة ؛ بكسر اللام ، كالتّجربة ؛ على أنه مصدر من هلّك ـ يعني بتشديد اللام ـ فأبدلت الكسرة ضمّة ؛ كالجوار والجوار» ، وردّ أبو حيّان بأنّ فيه حملا على شاذّ ، ودعوى إبدال ، لا دليل عليها ؛ وذلك أنه أنه جعله تفعلة بالكسر ، مصدر «فعّل» بالتشديد ، ومصدره ، إذا كان صحيحا غير مهموز على «تفعيل» ، و «تفعلة» فيه شاذّ ، وأمّا تنظيره له بالجوار والجوار ، فليس بشيء ، لأنّ الضمّ فيه شاذّ ، فالأولى أن يقال : إنّ الضّمّ أصل غير مبدل من كسر ، وقد حكى سيبويه (٢) ممّا جاء من المصادر على ذلك التّضرّة والتّسرّة.
قال ابن عطيّة : «وقرأ (٣) الخليل التّهلكة ، بكسر اللام ، وهي تفعلة ، من هلّك بتشديد اللام» وهذا يقوّي قول الزمخشري.
وزعم ثعلب والجارزنجي أنّ «تهلكة» لا نظير لها ، وليس كذلك. قال أبو علي : حكى سيبويه التّضرّة والتّسرّة قال : «ولا نعلمه جاء صفة» (٤).
قال ابن الخطيب (٥) ـ رحمهالله تعالى ـ إنّي لأتعجّب كثيرا من تكلّفات هؤلاء النّحاة في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنّهم وجدوا نقلا عن أعرابيّ مجهول يكون حجتّهم فيه ، ففرحوا به ، واتخذوه حجّة قويّة ، ودليلا قاطعا ، وقالوا : قد نقل هذا عن العرب ؛ فكيف ، وقد ورد هذا في كلام الله تعالى المشهور له من كلّ واحد من الموافق والمخالف
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٨٥.
(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٢٧.
(٣) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٦٥ ، والدر المصون ١ / ٤٨٣.
(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.
(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٦.