والمراد ب «شيء» حينئذ : ذلك المستحقّ ، والمراد ب «الأخ» المقتول ، ويحتمل أن يراد على هذا القول أيضا : القاتل ، ويراد بالشيء الدية ، و «عفي» بمعنى : [«يسّر» على هذين القولين ، وقيل : بمعنى «ترك».
وشنّع الزّمخشريّ على من فسّر «عفي»](١) بمعنى «ترك» قال : فإن قلت : هلّا فسّرت «عفي» بمعنى «ترك» ؛ حتى يكون شيء في معنى المفعول به.
قلت : لأنّ : «عفا الشّيء» بمعنى تركه ، ليس يثبت ، ولكن «أعفاه» ، ومنه : «وأعفوا اللّحى» (٢) ، فإن قلت : قد ثبت قولهم : «عفا أثره» إذا محاه وأزاله ، فهلّا جعلت معناه : «فمن محي له من أخيه شيء» قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسّنة ، واستعمال النّاس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله تعالى على اختراع لغة ، وإدّعاء على العرب ما لم تعرفه ، وهذا جرأة يستعاذ بالله منها.
قال أبو حيّان (٣) : إذا ثبت أنّ «عفا» بمعنى «محا» فلا يبعد حمل الآية عليه ، ويكون إسناد «عفا» لمرفوعه [إسنادا حقيقيا ؛ لأنّه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده لمرفوعه](٤) مجازا ؛ لأنّه مصدر مشبّه بالمفعول به ، فقد يتعادل الوجهان ؛ أعني : كون «عفا» اللّازم لشهرته في الجنايات ، و «عفا» المتعدّي بمعنى «محا» لتعلّقه بمرفوعه تعلّقا حقيقيا.
فإن قيل : تضمّن «عفا» معنى ترك.
فالجواب : أنّ التّضمين لا ينقاس ، وقد أجاز ابن عطيّة (٥) ـ رحمهالله ـ أن يكون «عفا» بمعنى «ترك».
وقيل إنّ «عفي» بمعنى فضل ، والمعنى : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الدّيات ؛ من قولهم : عفاء الشّيء إذ كثر ، وأظهر هذه الأقوال أوّلها.
فصل
اعلم أنّ الّذين قالوا : يوجب العهد أحد أمرين : إمّا القصاص ، وإمّا الدّية : تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : الآية تدلّ على أنّ فيها عافيا ومعفوّا عنه ، وليس هاهنا إلّا وليّ الدم ،
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٣٥١) كتاب اللباس : باب إعفاء اللحى (٥٨٩٣) ومسلم (١ / ٢٢٢) كتاب الطهارة : باب خصال الفطرة حديث (٥٢ / ٢٥٩) من حديث ابن عمر.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ١٥.
(٤) سقط في ب.
(٥) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٦.