«وما تستوي الأحياء» بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذه الأشياء جيء بها على سبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظّلّ والحرور الحقّ والباطل والأحياء والأموات لمن دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المنفيّات (١) على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين للكافر والمؤمن عقبه بما كل منهما فيه فالكافر في ظلمة والمؤمن في نور لأن البصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم (٢) ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل. ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور ، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم. وقولنا : لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قبل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن ينزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع (٣) ، وإنما كرر الفعل في قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ) مبالغة في ذلك لأن المنافاة بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد «لا» تأكيدا في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافاة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظّلّ والحرور والظلمات والنور فإنها متنافية أبدا لا تجتمع اثنان منها في محلّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمة.
فإن قيل : الحياة والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفا بالحياة ثم يتصف بالموت!
فالجواب : أن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافاة بينهما أتمّ. وأفرد (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) لأنه قابل الجنس بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيرا بليدا فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد (٤).
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما (٥) كثيرة متشعبة. ووحد
__________________
(١) في «ب» المنقبات. تحريف.
(٢) في «ب» تقدم.
(٣) شنّع السيوطيّ على من وصف القرآن بالسجع فقال في الإتقان ٢ / ١٢٥ : «وأمّا ما جاء في القرآن من سجع فهو كثير لا يصح أن يتفق غير مقصود إليه ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز».
(٤) بالمعنى قليلا من الفخر ٢٦ / ١٦ و ١٧ وباللفظ من الدر المصون والبحر. الدر ٤ / ٤٧٥ و ٤٧٦ والبحر ٧ / ٣٠٩.
(٥) في «ب» وطرقها إفرادا لا تثنية راجعة إلى الظلمات.