الثالث : أن للناس في قصة داود قولان : منهم من قال : إنها تدل على دينه ، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إنّ حزنك ليس إلا لأن الكفار كذبوك ، وأما حزن داود فكان بسبب وقوع ذلك الذنب ، ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن. ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر وإنما دخلا عليه لقصد قتله ، فخاف منهما داود ومع ذلك فلم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهم على (ما سيجيء تقرير (١) هذه الطريقة) ، فلا جرم أمر الله تعالى محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأن يقتدي به في حسن الخلق.
الرابع : أن قريشا إنما كذبوا محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واستخفوا به لقولهم : إنه يتيم فقير ، ثم إنه تعالى قصّ على محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما كان في مملكة داود ، ثم بين بعد ذلك أنه ما سلم من الأحزان والغموم ليعلم أن الخلاص من الحزن لا سبيل إليه في الدنيا.
الخامس : قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ولم يقتصر على قصة داود بل ذكر عقيب قصة داود قصص أنبياء كثيرة فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهمّ خاص وحزن خاص فيعلم حينئذ أن لا انفكاك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجة العالية عند الله لا تحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
قال ابن الخطيب : وههنا وجه آخر قويّ وأحسن من كل هذه الوجوه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) الآية (٢) [ص : ٢٩].
قوله : «داود» بدل أو عطف بيان ، أو منصوب بإضمار أعني و «ذا الأيد» نعت له (٣) ، والأيد القوة (٤) ، قال ابن عباس : أي القوة في العبادة ، وقيل : القوة في الملك (٥) ، واعلم أن قوله : «عبدنا داود» فوصفه بكونه عبدا له. وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمدا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليلة المعراج ، قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] وأيضا فإن وصف الأنبياء بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة ، والمراد بالأيد القوة في الطاعة والاحتراز عن المعاصي لأن مدحه بالقوة يوجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح العظيم وليست إلا القوة على فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى
__________________
(١) ما بين القوسين من الرازي وما في النسختين (فاقتد بهذه الطريقة).
(٢) الرازي ٢٦ / ١٨٤.
(٣) الدر المصون ٤ / ٥٩٧ والتبيان ١٠٩٨.
(٤) القرطبي ١٥ / ١٥٩ ومعاني الفراء ٢ / ٤٠١ ومجاز القرآن ٢ / ١٧٩ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٣٢٣.
(٥) ذكرهما البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٤٣ ، ٤٤.