لضرورة ، وأيضا فإنّا إذا قلنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد فائدة شريفة وهي تنزيل الكتاب يكون من الله لا من غيره ، وهذا الحصر معنى معتبر ، وإذا أضمرنا المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة ، وأيضا فإنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير : هذا تنزيل الكتاب ، وحينئذ يلزم مجاز آخر لأن هذا إشارة إلى السورة وهي ليست نفس التنزيل بل السورة منزلة فحينئذ يحتاج إلى أن يقول : المراد منه المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة (١).
قوله : (مِنَ اللهِ) يجوز فيه أوجه :
أحدها : أنه مرفوع المحل خبر التنزيل كما تقدم (٢).
الثاني : أنه خبر بعد خبر إذا جعلنا تنزيل خبر مبتدأ مضمر ، كقولك : هذا زيد من (٣) أهل العراق.
الثالث : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا تنزيل هذا من الله (٤).
الرابع : أنه متعلق بنفس «تنزيل» إذا جعلناه خبر مبتدأ مضمر (٥).
الخامس : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «تنزيل» عمل فيه اسم الإشارة المقدر قاله الزمخشري (٦).
قال أبو حيان : ولا يجوز أن يكون حالا عمل فيها معنى الإشارة ؛ لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفا ، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزدق :
٤٢٨٧ ـ .......... |
|
... وإذ ما مثلهم بشر(٧) |
__________________
(١) قاله الرازي في تفسيره ٢٦ / ٢٣٧ و ٢٣٨. وهو بهذا يرجح رأي الزجاج والفراء الثاني.
(٢) قاله الزّمخشري أيضا في الكشاف ٣ / ٣٨٥.
(٣) المرجع السابق.
(٤) السابق أيضا وقال بالأربعة الأوجه صاحب الدر المصون في تفسيره ٤ / ٦٣٢.
(٥) المرجع السابق.
(٦) قال : أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة. الكشاف ٣ / ٣٨٥.
(٧) هذا بعض بيت من البسيط وتمامه :
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم |
|
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر |
وهو للفرزدق كما أخبر هو أعلى يمدح فيه عمر بن عبد العزيز. والشاهد : نصب «مثلهم» فذهب أبو العباس إلى أن نصبه على النعت المقدم وإضمار الخبر على الحال مثل قولك : فيها قائما رجل وذلك أن النعت لا يكون قبل المنعوت والحال مفعول فيها والمفعول يكون مقدما ومؤخرا وهذا على إهمال «ما». ورأى سيبويه في هذا أنه خبر مقدم «لما» الحجازية. وهذا تجويز منه على تقديم خبرها. وقد ردّ قول المبرد بمثل ما قال أبو حيان به في البحر من أن معاني الأفعال لا تعمل مضمرة ، وبأن الحال فضلة يتم الكلام بدونها وهنا لا يتم الكلام بدون «مثلهم» فلا يكون حالا والمبتدأ أيضا قد حذف خبره في موضع لا يعلم المخاطب به ما حذف منه ولا دلالة على المحذوف وهذا لا يجوز. وقد تقدم.