قوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ). وفي «ما» هذه قولان :
أحدهما : أنها نافية (١).
والثاني : أنها استفهامية (٢) لكن لا يراد به حقيقة الاستفهام فيعود إلى النفي. وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تتفكّروا» لأنه فعل تحقيق كتبيّن وبابه؟ ثلاثة أوجه نقل الثّالث ابن عطية (٣). وربما نسبه لسيبويه ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و (مِنْ جِنَّةٍ) يجوز أن يكون فاعلا بالجار (٤) لاعتماده (٥) وأن يكون مبتدأ (٦) ، ويجوز في «ما» إذا كانت نافية أن تكون الحجازيّة أو التّميميّة (٧).
قوله : (مَثْنى وَفُرادى) إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله «مثنى» وإن كان وحده دخل في قوله : «فرادى» فكأنه قال : تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا يمنعكم الجمعيّة من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله (٨) ، ثم تتفكروا في حال محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة» جنون. وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القيام بالأمر الذي هو طلب الحق (٩) كقوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧]. قال ابن الخطيب (١٠) : وقوله : (بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يفيد كونه رسولا وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولا ، لأن النبي ـ عليهالسلام ـ كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من (١١) يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي ـ عليهالسلام ـ بواسطة الجن بل (١٢) بقدرة الله من غير واسطة وعلى
__________________
(١) قاله في التبيان ١٠٧٠.
(٢) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ والفراء في معانيه ٢ / ٣٦٤ فقد قال الزمخشري : «وقد جوز بعضهم أن تكون ما استفهامية» وقال الفراء : «ثمّ تتفكّروا هل جربتم على محمد كذبا أو رأيتم به جنونا ففي ذلك ما يتيقنون أنه نبي».
(٣) البحر المحيط ٧ / ٢٩١ وقد نقل وجهي التعليق والاستئناف أبو حيان في بحره ٧ / ٢٩١ وكذلك شهاب الدين السمين في الدر ٤ / ٤٥٤ بينما نقل وجه جواب القسم السمين فقط ٤ / ٤٥٤ والتعليق يكون بالنفي والجملة تكون حينئذ في محل نصب وهو محط التفكر ، أي تتفكروا في انتفاء الجنة عن محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهذا يشبه قول الله : «وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» بتصرف ٧ / ٢٩١ والهمع ١ / ١٥٤.
(٤) وهو صاحب.
(٥) على نفي أو استفهام.
(٦) على اعتبار «من» مزيدة والخبر «بصاحب» وتحقق زيادة «من» بعد وقوعها بعد استفهام أو نفي.
(٧) فإذا كانت حجازية كان اسمها «جنة» وخبرها «بصاحب» وإذا كانت تميمية كان «بصاحب» خبر مقدم و «جنة» مبتدأ مؤخر كما قال أعلى. ولست أدري كيف جعل المؤلف «ما» حجازية لتقدم الخبر لأن الخبر إذا تقدم على اسمها لا تعد «ما» عاملة بل مهملة. انظر : السمين ٤ / ٣٥٥ والكتاب ١ / ١٢٢.
(٨) قاله الرازي ٢٥ / ٢٦٨.
(٩) قاله البغوي في معالم التنزيل ٥ / ٢٩٥.
(١٠) قاله في تفسيره «التفسير الكبير» ٢٥ / ٢٩٥.
(١١) فيه : ممن.
(١٢) فيه : أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة بحرف العطف «أو».