التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطّرق ، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسّ الصفات فإنه لو قال أولا هو رسول كانوا يقولون فيه النّزاع فإذا قال: ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك ، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه ، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) يعني إما هو به جنّة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير. وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يمسّكم عن قريب (١).
قوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) في «ما» وجهان :
أحدهما : أنها شرطية فيكون مفعولا مقدما و (فَهُوَ لَكُمْ) جوابها (٢).
والثاني : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائد محذوف أي سألتكموه والخبر : (فَهُوَ لَكُمْ)(٣) ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجرا البتة كقولك : إن أعطيتني شيئا فخذه مع عملك أي لم يعطك شيئا وقول القائل : ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ويحتمل أنه سألهم شيئا نفعه عائد عليهم وهو المراد بقوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
قوله : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) يجوز أن يكون (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) مفعوله محذوفا لأن القذف في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضا عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالحقّ» أي بسبب الحق أو ملتبسا بالحق. ويجوز أن يكون التقدير يقذف الباطل بالحقّ أي يدفعه ويطرحه (٤) ، كقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) [الأنبياء : ١٨]. ويجوز أن يكون الباء (٥) زائدة أي نلقي الحقّ (٦) ، كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] أو تضمن «يقذف» معنى يقضي ويحكم (٧) ، والقذف الرمي بالسهم أو بالحصاة أو الكلام (٨).
__________________
(١) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٦٩ المرجع السابق.
(٢) قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٩٥ قال : «فَهُوَ لَكُمْ» جزاء الشرط الذي هو قوله : «ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» تقديره : أيّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم كقوله تعالى :«ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها» وانظر : الدر المصون ٤ / ٤٥٥.
(٣) المرجعان السابقان والبحر المحيط ٧ / ٢٩١ وهما بالمعنى من الكشاف والبحر وباللفظ من الدر المصون.
(٤) المراجع السابقة.
(٥) أوردها أبو حيان في بحره وضعّفها قال : «فإذا جعلت بالحق هو المفعول كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد فيه». البحر ٧ / ٢٩٢. وقد جوز زيادة الباء هنا شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤ / ٤٥٥.
(٦) ما بين القوسين كله ساقط من «ب».
(٧) المرجع الأخير السابق.
(٨) قاله في اللسان ٣٥٦٠.