وهذا لا يدرك بالعقول القاصرة المشوبة بالمادّة الزائلة ، فلا يعقلها إلّا العالمون بالله تعالى.
وإنّ المقصود والأثر المطلوب من إقامة الصلاة معنويّتها ، لا مجرّد وجودها وشبحها ، فإنّ الإقامة هي الإكمال والإتقان ، يقال : (فلان أقام داره) ، أي : أكملها وجعل فيها كلّ ما يحتاج إليه. وإنّ إقامة الصلاة تعديلها من جميع الجهات ـ بالتوجّه فيها إليه تعالى والتقرّب بها لديه جلّ شأنه وحفظ أركانها وشرائطها حتّى تترتّب آثارها ـ فليس كلّ مصلّ مقيم ، وكم من مصلّ ليس له من صلاته إلّا التعب ، وفي بعض الأحاديث : «من لم تنه صلاته من الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلّا بعدا» ، وعن نبيّنا الأعظم صلىاللهعليهوآله : «إذا صلّى العبد فلم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها ، لفت كما يلف الثوب الخلق ثمّ يضرب بها وجهه» ، فالمصلّون كثيرون والمقيمون قليلون وأهل الأشباح كثير وأهل القلوب وأرباب المعرفة قليل.
والتعبيرات الواردة في القرآن الكريم في مدح المصلّين أكثرها وأغلبها جاء بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣] ، وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه أفضل الصلاة والسلام) : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٠] ، وقال تعالى : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٨] ، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [سورة الماعون ، الآية : ٥] ، ولم يقل سبحانه وتعالى : فويل للمقيمين الصلاة ، وفي الحديث : «انّ العبد إذا قام الى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه وقامت الملائكة من لدن منكبه إلى الهويّ يصلّون بصلاته» ، إلى غير ذلك من الروايات والأحاديث.
والتوجّه أو الخشوع فيها على مراتب :