وقد مثّلوا للقاعدة في العلل المادّية بقولهم : «كلّ اناء بما فيه ينضح» ، وتجري هذه القاعدة : «قاعدة التناسب» في جميع أقسام المسبّبات والمعلولات ، بلا فرق فيها.
نعم ، إنّ الكمال متفاوت وله مراتب شدّة وضعفا ، حقيقة ومجازا ، مادّيا ومعنويّا ، أو قد يكون خفيّا مستورا ، وقد يكون ظاهرا.
وتجري هذه القاعدة في المجرّدات أوّليّة كانت أو ثانويّة ـ وعليها بنوا أنّ الصادر الأوّل من المبدأ الفياض الأزلي لا بدّ وأن يكون فيه الكمال المطلق ـ بل عن بعضهم هو عين الكمال المطلق ـ وهو العقل الأوّل الّذي هو جامع لجميع ما يليق به من الكمال ، ومنه ينحدر بقية العقول العشرة حتّى يصل إلى العقل المادّي الفعال.
حتّى أنّ بعضهم بنوا على هذه القاعدة اختلاف رتب الملائكة ، وإن كان في ذلك بحث عندنا ، كما سيأتي في محلّه.
وعلى هذه القاعدة لا يمكن نقص ـ من الاختلاف في البيان أو الموضوع أو غيرهما ـ في القرآن الكريم ؛ لأنّه الصادر من الحيّ القيوم الأزلي ، وكذا سائر الكتب السماويّة إن لم تمسّه يد التحريف ، والقرآن مصون منه بالأدلّة الكثيرة ، كما يأتي بيانها في المورد المناسب لها.
ولذا يكون كمال القرآن بذاته ولذاته صادر عن الحقّ بلا واسطة ، وإنّ إعجازه فيه وبه ومنه جلّ شأنه بلا فصل ، فيمكن أن تكون الآية المباركة : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) إرشادا إلى ذلك.