وإن قلنا بعدم المنافاة بينهما ، وأنّ الرضا بالشيء يجامع كراهته كما يظهر الجزم به من بعض أهل المعرفة وهو الأظهر ، نظراً إلى أنّ الكراهة وإن كانت من صفات النفس وهي عبارة عن انقباض النفس عن وقوع المكروه والرضا أيضاً صفة اخرى تجامعها ، وهي عبارة عن إرخاء عنان المنع في النفس فلو أظهره يقال له الإذن ، فقد ترى أنّ الوالد والوالدة يكره إيذاء ولده بالفصد أو الحجامة أو غيرهما من أنواع الإيلامات ومع ذلك يرضى به لمصلحة الاستعلاج ولذا لا يسخط ولا يغضب على الفصّاد والحجّام ، وكذلك ربّ الدار لشدّة حاجته إليها أو شدّة علاقته بها يكره بيعها ومع ذلك قد يرضى به بل يأذن فيه لمصلحة أداء الدين.
ولعلّ المكروهات الشرعيّة في نظر الشارع تعالى أيضاً من هذا القبيل فيكره وقوعها من العبد لما فيها من المفسدة والمنقصة الّتي هي إمّا مضرّة دنيويّة أو اخرويّة ومع هذا فهو راضٍ بفعلها وآذن فيه.
فعلى هذا التقدير ينبغي أن يتكلّم في حكم المسألة وقد يقال : بأنّ الرضا يبيحها استناداً إلى أصلي الإباحة والبراءة لعدم شمول أدلّة التحريم لما يقارنه الرضا ، لأنّ المنساق منها أنّ الغيبة إنّما حرّمت من حيث كونها إيذاءً للمؤمن والراضي لا يتأذّى ، أو على أنّها هتك لاحترام المؤمن والراضي بنفسه هتك احترام نفسه. ويؤيّده النبويّ المرويّ عن الكافي «قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيعجز أحدكم أن يكون كابن [ضمضم] (١) زمزم ، أنّه كان إذا خرج من بيته يقول : اللهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على المسلمين» (٢) والنبويّ الآخر (٣) «كان عليّ بن الحسين عليهماالسلام يتصدّق صبيحة كلّ يوم عرضه» (٤) فإنّ المقصود من صدقة العرض أن لا يتأثّم المسلمون المتعرّضون له ، والعرض هو الغيبة بالخصوص ، أو يندرج فيه الغيبة أيضاً.
ويمكن الاستدلال بما دلّ من المستفيضة على «أنّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا أن
__________________
(١) هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم ، أبو حمزة الأنصاري النجاريّ المدنيّ خادم رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وله صحبة طويلة وحديث كثير ، وكان آخر الصحابة موتاً. (تذكرة الحفّاظ) ٤٤.
(٢) البحار ٧٢ : ٢٤٤ ، المستدرك ٩ : ٦ / ٥ ، ب ٩٥ أحكام العشرة.
(٣) كذا في الأصل ، إمّا في العبارة سقط ، أو المراد : والعامّي الآخر.
(٤) لم نعثر عليه.