فالجواب : أن في الكلام إيجازا ، وإنّما المعنى : لا تفهم معاني ما يقال لهم ؛ كما لا تميّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوّت بها ، وإنّما تفهم شيئا يسيرا ، قد أدركته بطول الممارسة ، وكثرة المعاودة ؛ فكأنه قيل لهم : إلّا سماع النّداء دون إدراك المعاني ، والأغراض.
قال شهاب الدّين (١) : وهذا السّؤال من أصله ليس بشيء ، ولو لا أنّ الشّيخ ذكره ، لم أذكره.
وهنا سؤال ذكره عليّ بن عيسى (٢) ، وهو هل هذا من باب التّكرار لمّا اختلف اللّفظ ، فإنّ الدعاء والنّداء واحد؟ والجواب : أنه ليس كذلك ؛ فإن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصّوت.
وقال القرطبيّ (٣) ـ رحمهالله ـ : النداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداء ؛ لأنه للأباعد ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ النبيّ ـ عليهالسلام ـ قال : «الخلافة في قريش ، والحكم في الأنصار ، والدّعوة في الحبشة» (٤).
قال ابن الاثير في «النّهاية» (٥) : أراد بالدّعوة الأذان ، وجعله في الحبشة ؛ تفضيلا لمؤذّنه بلال ، وقال شاعر الجاهليّة : [الوافر]
٨٩٨ ـ فلست بصائم رمضان عمري |
|
ولست بآكل لحم الأضاحي |
ولست بقائم كالعير يدعو |
|
قبيل الصّبح حيّ على الفلاح |
أراد أذان الصّبح ، وقد تضمّ النون في النّداء ، والأصل الكسر.
قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٧١] لمّا شبّههم بالبهائم ، زاد في تبكيتهم ، فقال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ؛ لأنّهم صاروا بمنزلة الأصمّ ؛ في أنّ الذي سمعوه ، كأنّهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البكم ؛ في ألّا يستجيبوا لما دعوا إليه ، ومن حيث العمي ؛ من حيث إعراضهم عن الدّلائل ؛ فصاروا كأنّهم لم يشاهدوها ، قال النّحاة : «صمّ» ، أي : هم صمّ ، وهو رفع على الذّمّ.
__________________
(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٤٤٠.
(٢) علي بن عيسى بن علي بن عبد الله أبو الحسن الرماني كان إماما في العربية علامة في الأدب صاحب التفسير والحدود الأكبر والأصغر وشرح أصول ابن السراج توفي في حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. ينظر البغية : ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١.
(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٤٥.
(٤) أخرجه أحمد (٤ / ١٨٥) والطبراني (١٧ / ١٢١) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١٣٨) وابن أبي عاصم (٢ / ٥٢٧ ، ٥٢٨ ، ٥٣٢).
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ١٩٥) وعزاه لأحمد والطبراني وقال : رجاله ثقات.
وأورده المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣٣٨٠٩).
(٥) ينظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير : ٢ / ١٢٢.