فإن قيل : لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ، ولا إلى العلم بصدق الكتب ، إلّا بواسطة صدق الرّسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب ، فلم قدّم الملائكة والكتب في الذّكر على الرّسل؟
فالجواب : أنّ الأمر ، إن كان كذلك في عقولنا ، إلّا أنّ الترتيب على العكس ؛ لأنّ الملك يوجد أوّلا ، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل ، فالمراعى في هذه
__________________
ـ والأدب الرائع ما يفوق أفكار أفلاطون ، وأدب «أبي العلاء» ، فلما نظر فيه ، قال : ما هذا الكتاب إلا أوراق كانت في صندوق ، وكان معها شيء من حروف الطباعة ، ثم اهتز الصندوق هزّات متوالية ، فوجد ذلك الكتاب على ما ترون ؛ فهل لا ترمي صاحب تلك الفلسفة بالجنون؟! وإذا كنت لا تسلّم أن باخرة توجد بلا مهندس ، بل لا تسلّم أن كلمة صغيرة توجد بلا كاتب ، فكيف تسلّم أن هذا الكون العظيم الذي بهر العقول ، وحيّر الألباب ـ قد وجد بلا موجد ، ونظم بلا منظم ، وكان كل ما فيه ؛ من نجوم وغيوم ، وقفار وبحار ، وليل ونهار ، وظلمات وأنوار ، وأشجار وأزهار ، وشموس وأقمار ، إلى أنواع لا يحصيها العدّ ، ولا يأتي عليها الحصر ـ قد وجدت بلا موجد ؛ إن هذا لهذيان وجنون.
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ترشد هذه الآيات إلى أن القائل في السموات كيف بنيت ، أي كيف نسق هذا النظام البديع ، وارتبطت كواكبها بعضها ببعض ، حتى أشبهت من حيث خضوعها لنظام بديع ، وترتيب عجيب البناء محكم.
فمن الذي نظم عقد هذه الكواكب ، ومن الذي رتّبها حتى صارت بهجة للناظرين ، ومن الذي أزاح عنها الخلل ؛ فليس في هذا البناء المحكم فروج ينفذ فيها الخلل ، فتختل دوراتها ، فيصطدم بعضها ببعض اصطداما يتداعى منه ذلك البنيان ، وتندكّ منه السماء (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).
إن الذي بيده أمر هذه المجاميع العلويّة والسفليّة ، وتنظيم أمرها ، ويحفظها من الخلل ويعطي كل شيء منها قسطه الطبيعي ـ لا بد أن يكون موجودا مريدا مختارا.
مثل هذا النظام الذي تتجلى فيه الحكمة ، والعناية ، والدقة ، والإحاطة ـ محال أن ينسب إلى المصادفة كما يقول الملحدون ؛ فإن المصادفة تضادّ النظام ، وتخالفه كل المخالفة.
محال أن يكون هذا النظام المتناهي في الدّقة من أثر الفوضى والإهمال ، وأن ينسب إلى عدم الفاعل والموجد.
تلك محالات أولية ، يرفض العقل الاقتناع بها ، والركون إليها ، وها هي أكثر الآيات الدالة على وجود الخالق العظيم ـ آتية بطريق الاستفهام التقريري ، مما يدل على أن الجميع مقرّين بوجوده.
«هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ»؟ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)؟ (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) «أروني (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)؟.
هذه دلائل واضحة يسلّم بها العقل متى عرضت عليه ؛ لأن في فطرته الاعتراف بها ؛ فقد ثبت بهذه الأدلة ، وبما سبقها من الأدلة العقلية والكونية ـ أن للعالم صانعا مختارا في إيجاده ، وكون هذا العالم على هذا الوجه المشاهد بدون اضطرار ولا إيجاب.