وخامسها : الإيمان بالرسل.
__________________
ـ يجهل كثيرا من مباحثها.
انظر إلى أصحاب النظريات الفلسفية ، تجدهم يبطلون اليوم ما أثبتوه بالأمس ، ولا يستقرّون على رأي ، وتجد الطائفة المتأخرة تفنّد نظريات الطائفة المتقدمة ، وهكذا.
انظر إلى حاسة السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، فإنّا نعتقد أن كلّ حاسة تدرك ما هو من خواصّها ، ولكن كيفية الإدراك لا نعلمها علما يقينيا.
فكل هذه الجزئيات وما ماثلها ممّا يطول المقام بذكره ـ تدلّنا دلالة واضحة لا شك فيها ، ولا مرية على جهل الإنسان بحقائق كثيرة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فهل بعد إدراك عظم هذه المخلوقات الدالّة على عظمة المبدع ، وثبوت جهل الإنسان بأكثر الأشياء ـ تقولون : إن عقولنا لا يمكن أن تتصور موجودا ليس جسما ، وتجعلون عدم تصوّر العقل دليلا على الوجود ، في حين أنكم تعترفون أن هناك حقائق كثيرة نجهلها ، ولا تتصورها عقولنا ، ومع ذلك لا يمكنكم أن تقولوا : إن عدم التصور دليل على عدم الوجود ، ويظهر إيضا أن الذي سهّل عليهم هذا هو قياسهم الغائب على الشاهد ؛ فإنهم لما رأوا في الشاهد أن الموجود لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ ، ولا بدّ أن يكون جسما ، أو مادة جسم ، أو صورة جسم ـ قاسوا ذلك الغائب عليه ، وهو ـ كما علمت سابقا ـ قياس فاسد لا يعوّل عليه ، فثبت أن العالم محدث أحدثه الفاعل المختار ـ جلّ وعلا ـ.
«الشبهة الثّالثة» :
قالوا : الإيجاد جود وإحسان ، فلو لم يكن الله تعالى موجودا في الأزل ، لكان تاركا للجود والإحسان مدة غير متناهية ، وذلك غير جائز ـ وربما عبّروا عنه بعبارة أخرى ، فقالوا : علّة وجود العالم ـ وجود الباري ـ تعالى ـ ، ووجود الباري تعالى أزليّ ؛ فيلزم أن يكون وجود العالم أزليّا.
«الجواب عن هذه الشبهة» :
وهي قولهم : الإيجاد وجود ، قلنا : هذا ينتقض بإيجاد هذه الصّور والأعراض الحادثة ، فإنه وجود ولم يلزم منه قدم الصّور والأعراض ، هذا وقال إمام الحرمين في الإرشاد ـ مستدلّا على حدوث العالم وعدم قدمه بطريق الإلزام ـ :
الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار ، والنار بالأفلاك ، وهي أجرام متميزة شاغلة جوّا وحيّزا ، وبالاضطرار تعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها ، أو متياسرة ، أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما ، أو أصغر من ذلك ـ ليس من المستحيلات ، وكل مختصّ بوجه من وجوه الجواز دون سائر الوجوه ـ محتاج بضرورة العقل إلى مخصّص.
وقد قامت البراهين على أن المخصّص لهذه الكائنات هو الله الفاعل المختار ، فبطل حينئذ كون المادة قديمة ، وعلّة ، وقد قام البرهان القاطع على أن موجد العالم إله متّصف بجميع صفات الكمال ، فيكون هو الموجد للمادة ؛ كما أنه موجد للكائنات بطريق الاختيار ، لا بطريق العلّة والضرورة.
ورأيي في هذه العقيدة : هو ما ذكرته في مبدأ رسالتي ، وأزيد عليه : أنه كان ينبغي ألّا يختلف الناس في هذه العقيدة ؛ لأن دلالة الأثر على المؤثر ، والفعل المحكم على الحكيم ، دلالة بديهية فطرية ، بل قالوا : إن ذلك مما يدركه الحيوان الأعجم ، فضلا عن الإنسان ؛ فإنك إذا ضربت الحيوان ، التفت ليرى من ضربه ؛ لأنه مركوز في فطرته أن الأثر لا يكون بلا مؤثر والفعل لا يكون بلا فاعل ، وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ، وإذا رأيت كلمة من ثلاثة أحرف ، لم تشكّ في أن كاتبا كتبها ، وما مثل من ينكر الخالق ـ جل وعلا ـ وهو أظهر من الشمس ؛ إلا كمن رأى كتابا بديع المباني ، بليغ المعاني ، وفيه من الأفكار السّامية ، ـ