إليهم ، ثم إنه تعالى أكّد ذلك بقوله : «إذا عاهدوا» ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى.
وأجيب : بأنه تعالى ، وإن ألزمهم هذه الأشياء ، لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام ، والتزموه ، فصحّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه (١).
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلّف ابتداء من عند نفسه.
واعلم أنّ هذا العهد إمّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى ؛ كاليمين والنّذر ، وما أشبهه ، أو بينه وبين رسول الله ؛ كالبيعة ؛ من القيام بالنّصرة والمجاهدة ، والمظاهرة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، أو بينه وبين النّاس ، وقد يكون ذلك واجبا ؛ مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التّسليم والتّسلّم ، والشرائط التي يلتزمها في السّلم ، والرّهن (٢) وغيره ،
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٧.
(٢) الرّهن يطلق لغة على العين المرهونة. قال ابن سيدة : الرّهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه ؛ يقال : رهنت فلانا رهنا وارتهنته : إذا أخذه رهنا ، والرهينة والرهن واحدة الرهائن ، والهاء للمبالغة ؛ كالتشيمة والشتم ، ثم استعملا في معنى المرهون ؛ فقيل : هو رهن بكذا ، أو رهينة بكذا ، وفي الحديث : «كل غلام رهينة بعقيقته» ومعناه : أن العقيقة لازمة له لا بد منها ، فشبهه في لزومها ، وعدم انفكاكه منها ، بالرّهن في يد المرتهن. قال الخطابي : تكلّم الناس في هذا ، وأجود ما قيل فيه : ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال : هذا في الشفاعة ، يريد : أنه إذا لم يعقّ عنه ، فمات طفلا ـ لم يشفع في والديه ، أي : إن كل غلام محبوس ومرهون عن الشفاعة ؛ بسبب ترك العقيقة عنه. وقيل : معناه أنه مرهون بأذى شعره ؛ واستدلّوا بقوله : «فأميطوا عنه الأذى» وهو ما علق به من دم الرحم ، ورهن الشيء يرهنه رهنا ، ورهن عنده كلاهما : جعله عنده رهنا ، ورهنه عنه : جعله رهنا بدلا منه قال الشاعر : ارهن بنيك عنهم أرهن بنيّ ، أي : أرهن أنا بنيّ كما فعلت أنت ، ويطلق على الدّوام والحبس ، قال ابن عرفة : الرّهن في كلام العرب هو الشيء الملزم ؛ يقال : هذا راهن لك ، أي : دائم محبوس عليك ، وقوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي : محتبس بعمله ورهينة محبوسة بكسبها ، وحديث : «نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه» أي : محبوسة عن مقامها الكريم ؛ قال الشاعر :
وفارقتك برهن لا فكاك له |
|
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا |
شبّه لزوم قلبه لها ، واحتباسه عندها لشدة وجده بها ـ بالرهن الذي يلزمه المرتهن ، فيبقيه عنده ولا يفارقه ، وكلّ شيء ثبت ودام ـ فقد رهن ، ورهن لك الشيء : أقام ودام ، وطعام راهن : مقيم ؛ قال :
الخبز واللحم لهم راهن |
|
وقهوة راووقها ساكب |
وأنشد الأعشى يصف قوما يشربون خمرا لا تنقطع :
لا يستفيقون منها وهي راهنة |
|
إلا بهات وإن علّوا وإن نهلوا |
ورهن الشيء رهنا : دام وثبت ، وراهنة في البيت : ثابتة ، ورهين والرهن اسمان ؛ قال أبو ذؤيب :
عرفت الديار لأم الرهي |
|
ن بين الظباء فوادي عشر |
ويطلق على الكفالة : أنا لك رهن بالرّي وغيره ، أي : كفيل ؛ قال :
إنّي ودلوي لها وصاحبي |
|
وحوضها الأفيح ذا النصائب |
رهن لك بالري غير الكاذب ـ |