فإن قيل : قولكم : هذه الآية تقتضي وجوب القصاص ، فيه إشكالان :
الإشكال الأول : لو وجب القصاص ، لوجب إمّا على القاتل ، أو على وليّ الدّم ، أو على ثالث ، والأقسام الثلاثة باطلة ؛ لأنّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وأمّا وليّ الدم ، فلا يجب عليه ؛ لأنّ وليّ الدم يخيّر في الفعل ، والتّرك ، بل هو مندوب إلى التّرك ؛ كقوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وأمّا الثالث : فإنه أجنبيّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلّق له به.
الثاني : أنّا بيّنا أن القصاص عبارة عن التّسوية (١) ، وكان مفهوم الآية إيجاب التّسوية ؛ وعلى هذا التقدير : لا تكون الآية دالّة على إيجاب القتل ألبتّة ، بل تدلّ على وجوب رعاية التّسوية في القتل الذي يكون مشروعا بسبب القتل.
__________________
(١) اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص ، واختلفت أنظار المفكّرين في جوازه أو عدمه ، وأخذ كلّ يدافع عن فكرته ، ويحاجج عن رأيه ؛ حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة ، وقالوا إنها غير صالحة لهذا الزمن ، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن ، مهما بلغوا في الرّقي وتقدّموا في الحضارة.
كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام ، ولكن للاعتداء فيها يده المتنمرة ، وللإسراف فيها ضرره البالغ ، فحدّ الإسلام من غلوائها ، وقصر من غلوائها ، ومنع الإسراف فيها ؛ فقال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) فلم يبح دم من لم يشترك في القتل ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).
وقال عزّ من قائل : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) الآية ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس ، وترك للجماعة الرّاقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني ؛ فقال : «فمن تصدق به فهو كفّارة له» على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث ، وعركوا الأمور ، ودرسوا طبائع النفوس البشرية ونزعاتها وغرائزها قد هداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة لإنتاج الغاية المقصودة ؛ وهي إقرار الأمن ، وطمأنينة النفوس ، ودرء العدوان والبغي ، وإنقاذ كثيرين من الهلاك ؛ قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ).
وقد فهم أولو الألباب هذه الحكم البالغة ، وقدّروها حق قدرها ، وها نحن أولاء نرى اليوم أنّ الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها ؛ لما رأت في ذلك من المصلحة.
وأمكننا الآن أن نقول : إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.
أما القصاص في غير القتل ممّا ورد في الآية الكريمة : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) فهو في غاية الحكم والعدالة ؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك ، لاعتدى القويّ على الضعيف ، وشوه خلقته ، وفعل به ما أمكنته الفرصة ، لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله أو شرّا يصيبه ، ولو اقتصر الأمر على الدّيان كما هو الحال في القوانين الوضعية ـ لكان سهلا على الباغي ، يسيرا على الجاني ، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله ، في سبيل تعجيز عدوّه وتشويهه ، ما دامت القوة في يده ، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسّوء من أعضاء عدوّه سيصيب أعضاءه مثله كذلك ـ انكمش وارتدع وسلموا جميعا من الشر.