المراد منه من يتولّى ذلك بعد موته ؛ من وال ، أو وليّ ، أو وصيّ ، أو من يأمر بمعروف ، فلا وجه للتخصيص ، بل الوصيّ أو الشاهد أولى بالدّخول ؛ لأن تعلقهم أشدّ ، وكيفيّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف ، ويردّ كلّ حقّ إلى مستحقه.
قال القرطبيّ (١) : الخطاب في قوله : «فمن خاف من موص» لجميع المسلمين ، أي : إن خفتم من موص جنفا ، أي : ميلا في الوصيّة ، وعدولا عن الحقّ ، ووقوعا في إثم ، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته ، أو لولد ابنته ؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه ، أو أوصى لبعيد] ، وترك القريب ؛ فبادروا إلى السّعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصّلح ، سقط الإثم عن المصلح ، والإصلاح فرض على الكفاية ، إذا قام أحدهم به ، سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا ، أثم الكل.
فإن قيل : هذا الإصلاح طاعة عظيمة ، ويستحقّ الثّواب عليه ، فكيف عبّر عنه بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أنه تعالى ، لما ذكر إثم المبدّل في أوّل الآية وهذا أيضا من التّبديل ، بيّن مخالفته للأوّل ، وأنه لا إثم عليه ؛ لأنّه ردّ الوصيّة إلى العدل.
وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا ، فذلك يصعب على الموصى لهم ، ويوهم أن فيه إثما ، فأزال ذلك الوهم ، فقال : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).
وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيّته ، وصرفها عمن أحبّ إلى من كره ؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيّن تعالى أن ذلك حسن ؛ بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).
ورابعها : أن الإصلاح بين جماعة يحتاج إلى إكثار من القول ، ويخاف أن يتخلّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل ؛ فبيّن تعالى أنّه لا إثم عليه في هذا الجنس ، إذا كان قصده في الإصلاح جميلا.
فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إنما يليق بمن فعل فعلا لا يجوز ، وهذا الإصلاح من جملة الطّاعات ، فكيف يليق به هذا الكلام؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا من باب التّنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه قال : أنا الذي أغفر للذّنوب ، ثم أرحم المذنب ؛ فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك ، مع أنك تحمّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمّ كان أولى.
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٨١.