تعالى هذه الآية ؛ لبيان الحكم في هذه الواقعة فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي من استحلّ قتالكم من المشركين من الشّهر الحرام ، فاستحلّوه أنتم فيه (١).
وثالثها : قال بعض المتكلّمين (٢) : هو أنّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام من جانبكم ؛ والحاصل في هذه الوجوه : أنّ حرمة الشّهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر ، والأفعال القبيحة ، فكيف جعلوه سببا في منع القتال على الكفر والفساد؟!
قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) الحرمات : جمع حرمة ؛ كظلمات جمع ظلمة ، وحجرات جمع حجرة ، والحرمة ما منع من انتهاكه ، وجمعها ؛ لأنّه أراد حرمة الشّهر الحرام والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام. و «القصاص» : المساواة والمماثلة.
والمعنى على الوجه الأوّل في النّزول أنهم لمّا أضاعوا هذه الحرمات في سنة ستّ ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع.
وأما على الثّاني : فالمراد إن أقدموا على مقاتلتكم في الشّهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضا فيه.
قال الزّجّاج (٣) : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص والمماثلة ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ؛ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) وبما بعدها ؛ وهو قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).
وأما على القول الثالث : فقوله (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) يعني : حرمة كلّ واحد من الشهرين كحرمة الآخر ، وهما مثلان ، والقصاص هو المثل ، ولمّا لم يمنعكم حرمة الشّهر من الكفر ، والفتنة ، والقتال ، فكيف يمنعنا عن القتال ؛ فعلى هذا ، فقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) متّصل بما قبله.
وقيل : هو مقطوع منه ، وهو ابتداء أمر كان في أوّل الإسلام : أن من انتهك حرمتك ، نلت منه بمثل ما اعتدى عليك ، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت (٤) طائفة : ما تناولت الآية الكريمة من التعدّي بين أمة محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والجنايات ونحوها ـ لم ينسخ ، وجاز لمن تعدّي عليه من مال ، أو جرح أن يتعدّى بمثل ما تعدّي به عليه.
__________________
(١) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ٥ / ١١٤.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٤.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٥.
(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٣٧.