إتمامه بالشروع ، فيكون الأمر بالإتمام ، مشروطا بالشروع فيهما.
فالجواب : أنّ ما ذكرناه أولى ؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمار ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار ؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، ويدلّ عليه : أنّ أهل التفسير ذكروا أنّ هذه الآية أول آية نزلت في الحجّ ، فحملها على إيجاب الحجّ ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشّروع.
وأيضا يؤيّده ما ذكرناه من قراءة (١) من قرأ «وأقيموا الحجّ والعمرة لله» وإن كانت شاذّة ، لكنّها تجري مجرى خبر الواحد.
فإن قيل : قراءة عليّ ، وابن مسعود ، والشّعبي : «والعمرة لله» بالرفع يدلّ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجّ ، في الوجوب ؛ فالجواب من وجوه :
أحدها : أنها شاذّة ؛ فلا تعارض المتواترة.
فإن قيل : قد استدللتم أنتم بالشاذّة أيضا؟
قلنا : استدللنا بها حيث هي موافقة ؛ فتكون تقوية للاستدلال ، لا أنّها نفس الدّليل ،
__________________
ـ والإفطار ؛ بقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر» ؛ لأن حمل الصائم في كلامه على المتلبس بالصوم ـ وإن ترتب عليه مجاز في قوله : (صام) أي : دام على صيامه ، إلا أنه مجاز واحد ـ أولى من حمله على مريد الصوم ؛ لما يلزم عليه من مجازين : أحدهما في الصائم ، وثانيهما في من أفطر ، ولا شك أن الحمل على معنى يكون التجوّز فيه قليلا أولى من الحمل على معنى يكون التجوّز فيه أكثر ؛ لأن قليل المجاز يكون أقرب إلى الأصل ، وهو الحقيقة ، بخلاف كثيرة ؛ لبعده عنه ، ويقاس على الصوم باقي المندوبات ، عدا الحج والعمرة ، فلا يتناولهما حكم الآية في قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) جمعا بين الأدلة.
وإنما وجب إتمام الحج والعمرة المندوبين على من شرع فيهما ؛ لتميزهما عن غيرهما من باقي المندوبات ؛ بمشابهتهما لفرضهما في أن نية نفلهما لا تختلف عن نية فرضهما ؛ إذ هي في كل منهما قصد التلبس ؛ بالحج والعمرة ، وأن الكفارة تجب في كل منهما بالجماع المفسد لهما ، وأنه لا يحصل الخروج منهما بفسادهما ، بل يجب المضي فيهما بعد الفساد ؛ لأن الإحرام شديد التعلّق ، فلا يتأثر بفساده ، بخلاف غيرها من سائر النوافل ، فليس فرضها ونقلها سواء فيما تقدم ؛ إذ النية في النفل غيرها في الفرض ، والكفارة تجب في فرض الصوم دون نفله ، وبفسادها يحصل الخروج منها مطلقا ، ففارق الحج والعمرة المندوبان غيرهما من النوافل ، وألحقا بما هما أكثر شبها به وهو فرض الحج والعمرة ، فوجب إتمامهما كما وجب إتمام فرضهما.
واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقد نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن إبطال الأعمال بعد الشروع فيها ، وهي عامّة تتناول كل الأعمال ، سواء المفروض منها والمندوب.
ويجاب عن ذلك : بأن الآية وإن كانت عامة ، إلا أنها خصصت بحديث الصيام السابق ، وقيس على الصيام غيره من سائر النوافل ، فتكون خارجة عن حكم الآية ، وإن كانت متناولة لها من حيث اللفظ ؛ جمعا بين الأدلة.
(١) تقدم.