ثم قال : فإن قيل : أليس أنّه لو قيل : آتنا الحسنة في الدّنيا والحسنة وفي الآخرة ، لكان متناولا لكلّ الأقسام ، فلم ترك ذلك وذكره منكّرا؟
وأجاب (١) بأن قال : إنّا بيّنّا أنّه ليس للدّاعي أن يقول : اللهم أعطني كذا وكذا ، بل يجب أن يقول : اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي ، وموافقا لقضائك وقدرك ، فأعطني
__________________
ـ ونصّ عليه سيبويه ، فإنه قال : قولك شربت ماء البحر محكوم بفساده ؛ لعدم الإمكان ، ولو لا اقتضاؤه العموم ، لما جاء الفساد.
لكن اختلف أصحابنا في أن العموم فيه من حيث اللفظ أو المعنى على وجهين ، حكاهما الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي في «التقريب» ، وابن السّمعاني في «القواطع» ، وصحّح ابن السّمعاني أنه من حيث المعنى ، وكأنه لما قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [سورة المائدة : ٣٨] فهم أن القطع من أجل السّرقة.
وصحّح «سليم» أنه من جهة اللفظ ؛ لأن اللام إما للعهد وهو مفقود ، فبقي أن يكون لاستغراق الجنس ، وذلك مأخوذ من اللفظ ، وشرط بعضهم لإفادته العموم أن يصلح أن يخلف اللام فيه «كل» ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر : ٢] ولهذا صحّ الاستثناء منه.
والثاني : أنه يفيد تعريف الجنس ، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل ، وحكاه صاحب «المعتمد» عن أبي هاشم ، وحكاه صاحب «الميزان» عن أبي علي الفارسي النحوي ، واختاره الإمام فخر الدين وأتباعه ، وحكى بعض شراح «اللمع» عن الجبائي أنه على العهد ، ولا يقتضي الجنس ، قال : وحقيقة هذا القول أنه إذا لم يعرف عين المعهود ، صار مجملا ، لأنه لا يعرف المراد إلا بتفسير ، وهذا صفة المجمل.
والثالث : أنه مشترك يصلح للواحد والجنس ، ولبعض الجنس ، ولا يصرف إلى الكل إلا بدليل ، وحكاه الغزالي ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه مجمل يحكم بظاهره ، ويطلب دليل المراد به.
والرابع : التفصيل بين ما فيه الهاء ، وبين ما لا هاء فيه ، فما ليس فيه الهاء للجنس عند فقدانها ، وفي القسم الآخر التوقف ، ونقله الأبياري عن إمام الحرمين ، وقال : إنه الصحيح ، والذي في «البرهان» ونقله عنه المازري : أنه إن تجرد عن عهد ، فللجنس ؛ نحو : الزانية والزاني ، وإن لاح عدم قصد المتكلم للجنس ، فللاستغراق ، نحو : الدينار أشرف من الدرهم ، وإن لم يعلم هل خرج على عهد أو إشعار بجنس ، فمجمل ، وأنه حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ ، وإنما ثبت عمومه ، وتناوله الجنس بحالة مقترنة معه مشعرة بالجنس.
الخامس : التفصيل بين أن يتميز لفظ الواحد فيه عن الجنس بالتاء ؛ كالتمر والتمرة ، فإذا عرّي عن التاء ، اقتضى الاستغراق ؛ كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (لا تبيعوا البر بالبر ، والتمر بالتمر). قال في «المنخول» : وأنكره «الفرّاء» مستدلا بجواز جمعه على «تمور» ، وردّ بأنه جمع على اللفظ لا المعنى ، وإن لم تدخل فيه التاء للتوحيد ، فإن لم يتشخص مدلوله ، ولم يتعدد ؛ «كالذهب» فهو لاستغراق الجنس ؛ إذ لا يعبر عن أبعاضه بالذهب الواحد ، وإن تشخّص مدلوله وتعدد ؛ كالدينار والرجل ، فيحتمل العموم ، نحو : «لا يقتل المسلم بالكافر» ، ويحتمل تعريف الماهية ، ولا يحمل على العموم إلا بدليل ، وإنما يفهم الجنس في قولك : الدينار أفضل من الدرهم ، بقرينة التّسعير.
ينظر : البحر المحيط ٣ / ٩٧ ـ ١٠٠.
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٦١.