وإنزال الكتاب ، وذلك يوجب أنّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقّ حاصلا ، بل كان الاتفاق في الحق حاصلا وهو يدل على أنّ قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) معناه أمة واحدة في دين الحقّ.
وقوله : «من بعد» فيه وجهان :
أحدهما وهو الصحيح : أن يتعلّق بمحذوف تقديره : اختلفوا فيه من بعد.
والثاني : أن يتعلّق ب «اختلف» الملفوظ به ، قال أبو البقاء (١) : ولا تمنع «إلّا» من ذلك ، كما تقول : «ما قام إلّا زيد يوم الجمعة». وهذا الذي أجازه أبو البقاء ، فيه كلام كثير للنّحاة ، وملخّصه : أنّ «إلّا» لا يستثنى بها شيئان دون عطف أو بدلية ؛ وذلك أنّ «إلّا» معدّية للفعل ، ولذلك جاز تعلّق ما بعدها بما قبلها ، فهي كواو مع وهمزة التعدية ، فكما أنّ واو «مع» وهمزة التّعدية ، لا يعدّيان الفعل لأكثر من واحد ، إلّا مع العطف ، أو البدلية كذلك «إلّا» وهذا هو الصّحيح ، وإن كان بعضهم خالف. فإن ورد من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يؤوّل ، فمنه قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [يوسف : ١٠٩].
ثم قال «بالبيّنات» ، فظاهر هذا أنّ «بالبينات» متعلّق بأرسلنا ، فقد استثني ب «إلّا» شيئان ، أحدهما «رجالا» والآخر «بالبينات».
وتأويله أنّ «بالبيّنات» متعلّق بمحذوف ، لئلا يلزم منه ذلك المحذور. وقد منع أبو الحسن ، وأبو عليّ : «ما أخذ أحد إلّا زيد درهما» و «ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا» واختلفا في تصحيحها ، فقال أبو الحسن : طريق تصحيحها بأن تقدّم المرفوع الذي بعد «إلّا» عليها ، فيقال : ما أخذ أحد زيد إلا درهما ، فيكون «زيد» بدلا من «أحد» و «درهما» مستثنى مفرغ من ذلك المحذوف ، تقديره : «ما أخذ أحد زيد شيئا إلا درهما».
وقال أبو عليّ : طريق ذلك زيادة منصوب في اللّفظ فيظهر ذلك المقدّر المستثنى منه ، فيقال : «ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما» فيكون المرفوع بدلا من المرفوع ، والمنصوب بدلا من المنصوب ، وكذلك : ما ضرب القوم أحدا إلّا بعضهم بعضا.
وقال أبو بكر بن السّرّاج : تقول «أعطيت الناس درهما إلا عمرا» [جائز. ولو قلت : «عطيت الناس درهما إلا عمرا] الدنانير لم يجز ، لأنّ الحرف لا يستثنى به إلّا واحد. فإن قلت : «ما أعطيت الناس درهما إلّا عمرا دانقا» [على الاستثناء لم يجز ، أو على البدل جاز فتبدل «عمرا» من النّاس ، و «دانقا» من «درهما». كأنك قلت : «ما أعطيت إلّا عمرا دانقا] يعني أنّ الحصر واقع في المفعولين.
قال بعض المحقّقين : «وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ، ضعيف ؛
__________________
(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩١.