يوم أحد ، وكان شيخا كبيرا هرما ، وعنده مال عظيم ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآية (١).
فإن قيل إنّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أجيبوا ببيان المصرف؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنّ في الآية حذفا ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكلبيّ في سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : «من خير» وعن المنفق عليه بقوله : «فللوالدين» وما بعده.
ثانيها : أن يكون «ماذا» سؤالا عن المصرف على حذف مضاف ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون؟
ثالثها : أن يكون حذف من الأوّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مراد ، وقد تقدّم شيء من ذلك في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ) [البقرة : ١٧١].
رابعها : قال الزمخشريّ : قد تضمّن قوله : (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه ، وهو كلّ خير ؛ وبني الكلام على ما هو أهمّ وهو بيان المصرف ؛ لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلّا أن تقع موقعها. قال : [الكامل]
١٠٤٧ ـ إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة |
|
حتّى يصاب بها طريق المصنع (٢) |
خامسها : قال القفّال : إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ «ما ننفق» إلّا أن المقصود السؤال عن الكيفية ؛ لأنهم كانوا عالمين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا معلوما عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيّن أنّ المراد بالسؤال إنّما هو طريق المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقا للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) [البقرة : ٧٠ ، ٧١] وإنّما كان هذا الجواب موافقا للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : «ما هي» لا يمكن حمله على طلب الماهيّة ؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا هاهنا.
وسادسها : يحتمل أنّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤال فاسد ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفا إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال الطبيب : كل في اليومين مرّتين ، ومعناه : كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط.
__________________
(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٦ / ٢٠) من رواية الكلبي عن ابن عباس.
(٢) البيت لابن منظور ينظر : اللسان (صنع) ، الدر المصون ١ / ٥٢٥.