العدم إلى الوجود ، وذلك لأنّ الله ـ تعالى ـ هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود ؛ قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقّ الله ـ تعالى ـ من شيء أوجب من رعاية حقّ الوالدين ؛ فلذلك قدمهما ، ثم الأقربين ؛ لأنّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره ؛ ولأنّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره ، وذلك عار في حقّ قريبه الغنيّ.
__________________
ـ وعند الحنفية : في «تنوير الأبصار مع شرح الدر المختار» : هي الطعام ، والكسوة ، والسكنى ، وعرفا : هي الطعام.
عند المالكية : في «شرح الخرشي على مختصر خليل» : النفقة مطلقا : ما به قوام معتاد حال الآدمي ، دون سرف.
عند الحنابلة : في «الإقناع والمنتهى» : هي كفاية من يمونه ، خبزا ، وأدما ، وكسوة ، ومسكنا ، وتوابعها.
اتفق الأئمة الأربعة على أنه يجب على الولد ـ ابنا أو بنتا ـ أن ينفق على أبيه ، وأمه المباشرين ، ويدلّ على ذلك الكتاب ، والسنة والإجماع ، والمعقول.
١ ـ أما الكتاب فمنه :
أ ـ قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ،) ومن الإحسان : الإنفاق عليهما عند حاجتهما.
ب ـ وقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) والإنفاق عليهما عند فقرهما من أحسن الإحسان.
ج ـ وقوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) والشكر للوالدين : المكافأة على بعض ما كان منهما إليه من التربية والبر ؛ وذلك بالقيام بأمرهما ، وإدرار النفقة عليهما حال عجزهما ، وحاجتهما ، فكان ذلك واجبا بأمره ـ سبحانه وتعالى ـ.
د ـ وقوله تعالى : ولا (تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) فإنه يدل على النهي عن ترك الإنفاق عند الحاجة ؛ لما فيه من إيذاء أعظم من إيذاء التأفيف.
وأما السنة فمنها :
أ ـ قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه» رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها. وحسّنه.
وهو صريح في أن مال الولد حلال طيب لوالده ؛ ومثله الوالدة ؛ إذ لا فرق ، بل إنها أولى ؛ فقد نص النبي صلىاللهعليهوسلم على أنها أحق بحسن الصّحبة من الأب ، فالتقييد بالرجل لا مفهوم له.
ب ـ قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ أولادكم هبة الله لكم يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ، وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها» رواه البيهقي في السنن ، والحاكم في المستدرك ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، وقال الحاكم : «حديث صحيح على شرط الشيخين» ، ودلالته على المقصود ظاهرة.
٣ ـ وأما الإجماع ، فقد حكاه ابن المنذر ؛ فقال : «وأجمعوا على أن نفقة الوالدين اللّذين لا كسب لهما واجبة في مال الولد».
٤ ـ وأما المعقول ، فوجهان :
أ ـ القياس على الولد بجامع البعضية ، والعتق ، ورد الشهادة ، بل الوالدان أولى من الأولاد ؛ لأن حرمتهما أعظم ، والولد بالتعهد ، أليق.
ب ـ أنهما تسببا في إحياء الولد ، فاستوجبا عليه الإحياء ؛ جزاء وفاقا.