فقالوا : النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وكلاهما لا يليق بالحكيم ، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خاليا عن القيد ، وإما أن يكون مقيدا بلا دوام (١) [وإما أن يكون مقيدا بقيد الدوام ، فإن كان خاليا عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخا ، وإن كان مقيدا بقيد اللادوام ، فهاهنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخا له ، وإن كان مقيدا بقيد الدوام ، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائما مع أنه ذكر لفظا يدلّ على](٢) أنه يبقى دائما ، ثم إنه رفعه بعد ذلك ، فهاهنا كان جاهلا ، ثم بدا له ذلك ، [وإن كان عالما بأنه لا يبقى دائما مع أنه ذكر لفظا يدلّ على أن يبقى دائما كان ذلك تجهيلا](٣) فثبت أن النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وهما محالان على الله تعالى ، فكان النسخ منه محالا ، [فالآتي بالنّسخ في أحكام الله ـ تعالى ـ يجب أن يكون مبطلا](٤) ، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح ، وهنا الجهات متساوية في أنها لله ـ تعالى ـ ومخلوقة له وتغيير القبلة من [جانب إلى] جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثا ، والعبث لا يليق بالحكيم ، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى ، وقد أجاب الله ـ تعالى ـ على هذه الشبهة بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
وتقديره : أن الجهات كلها لله ـ عزوجل ـ ملكا وملكا ، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة ؛ لأن الله عزوجل جعلها قبلة ، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتّحويل من جهة إلى جهة ؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السّنة.
وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان :
الأول : لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعظّمه ، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيما وخشوعا ، وذلك مصلحة مطلوبة.
وثانيها : أن الكعبة منشأ محمد صلىاللهعليهوسلم ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وذلك أمر مطلوب [لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع ، والمفضي إلى المطلوب مطلوب](٥).
__________________
(١) في أ : بقيد.
(٢) سقط في أ.
(٣) سقط في أ.
(٤) سقط في أ.
(٥) سقط في ب.