المصلحة في الدين ؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة ، وهي تمييز من اتبعه ب «مكة» ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلّا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة ، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول بعض العرب : إن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية ، وكان التمسك بهذه الشبهة ، والاستمرار عليها سببا للبقاء على الجهل والكفر ، وذلك ظلم [للنفس](١) على ما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] فلا جرم ، قال الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ) اخشون».
أي : لا تخشوا من يتعنّت ويجادل ، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم ، فإنهم لا يضرونكم ، واخشوني ، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم ، وفرضت عليكم.
و «الخشية» : أصلها : طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف ، و «الخوف» : فزع في القلب تخف له الأعضاء ، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفا ، ومعنى التحقير لكل من سوى الله تعالى ، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قال بعضهم : الخوف أوّل المراتب ، وهو الفزع ، ثم بعده الوجل ، ثم الخشية ، ثم الرّهبة](٢).
قوله : «ولأتمّ» فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على قوله : «لئلّا يكون» كأن المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معلّلا بهاتين العلّتين :
[إحداهما : لانقطاع حجّتهم عنه.
والثانية : لإتمام النعمة. وقد بيّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون ، فلما حوّل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى «بيت المقدس» لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى الكعبة ، لما فيها من شرف البقعة ، فهذا موضع النعمة](٣) ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل إذ هو من متعلق العلة الأولى.
الثاني : أنه معطوف على علّة محذوفة ، وكلاهما [معلولها](٤) الخشية السابقة ،
__________________
(١) في ب : على النفس.
(٢) سقط في ب.
(٣) سقط في ب.
(٤) في أ : معلول.