فلا نسلّم أنّ «فسقا» في الآية الأخرى مبيّن للفسق في هذه الآية ، فإن هذا ليس من باب المجمل والمبيّن (١) ؛ لأن له شروطا ليست موجودة هنا. وهذا الذي قاله مشتمل من كلام الزّمخشري ، فإنه قال (٢) :
فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد.
قلت : قد تأوّله هؤلاء بالميتة ، وبما ذكر غير اسم الله عليه ؛ كقوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجّح به والضّمير في «أنّه» يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه ب «لا تأكلوا» ، وأن يعود على الموصول ، وفيه حينئذ تأويلان :
أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغة.
أو على حذف مضاف ، أي : «وإنّ أكله لفسق» أو على الذكر المفهوم من قوله : «ذكر».
قال أبو حيّان (٣) : «والضّمير في «إنّه» : يعود على الأكل ، قاله الزّمخشري ، واقتصر عليه».
قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمهالله ـ : لم يقتصر عليه بل ذكر : أنّه يجوز أن يعود على الموصول ، وذكر التّأويلين المتقدّمين ، فقال : «الضّمير راجع على مصدر الفعل الدّاخل عليه حرف النّهي ، بمعنى : وإنّ الأكل منه لفسق ، أو على الموصول على أنّ أكله لفسق ، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا».
قوله : «وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم» من المشركين ليخاصموا محمّدا وأصحابه في أكل الميتة.
وقال عكرمة : المراد بالشّياطين : مردة المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش ، وذلك لأنّه لما نزل تحريم الميتة ، سمعه المجوس من أهل فارس ، فكتبوا إلى قريش ـ وكانت بينهم مكاتبة ـ أنّ محمّدا وأصحابه يزعمون أنّهم يتبعون أمر الله ـ تعالى ـ ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلالا ، وما يذبحه الله حرام فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك ، فأنزل الله هذه الآية الكريمة.
__________________
(١) المبين لغة : الموضح ، وفي الاصطلاح له معنيان :
الأول ما احتاج إلى البيان ، وقد ورد عليه بيانه.
الثاني : الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان.
ينظر : المصباح المنير (١ / ٧٠) ، المعتمد (١ / ٣١٩) ، المحصول (١ ـ ٣ / ٢٢٧) ، الإحكام للآمدي (٢ / ١٧٨) ، المستصفى (١ / ٣٤٥) ، شرح تنقيح الفصول ص (٣٨) ، المنهاج بشرح نهاية السول (٢ / ٥٢٤) ، شرح الكوكب (٣ / ٤٣٧) ، إرشاد الفحول ص (١٦٧) ، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص (٢٦٦).
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦١ ـ ٦٢.
(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٦٩ ـ ١٧٠.
(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٠.