أعظم مما فرّ منه الجمهور ، وذلك أنه يلزمه على ما قدّر أنّ علم الله في نفسه يتفاوت بالنسبة إلى الأمكنة ، فيكون في مكان أبعد منه في مكان ، ودعواه مجاز الظرفيّة لا ينفعه ؛ فيما ذكرته من الإشكال ، وكيف يقال مثل هذا؟ وقوله : «نصّ النحاة على عدم تصرّفها» هذا معارض ـ أيضا ـ بأنهم نصّوا على أنها قد تتصرّف بغير ما ذكر هو من كونها مجرورة ب «لدى» أو «إلى» أو «في» فمنه : أنها جاءت اسما ل «إنّ» في قول الشاعر : [الخفيف]
٢٣٠٥ ـ إنّ حيث استقرّ من أنت راجي |
|
ه حمى فيه عزّة وأمان (١) |
ف «حيث» اسم «إنّ» ، و «حمى» خبرها ، أي : إنّ مكانا استقرّ من أنت راعيه مكان يحمى فيه العزّ والأمان ، ومن مجيئها مجرورة ب «إلى» قول القائل في ذلك : [الطويل]
٢٣٠٦ ـ فشدّ ولم ينظر بيوتا كثيرة |
|
إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم (٢) |
وقد يجاب عن الإشكال الذي أوردته عليه ، بأنه لم يرد بقوله «أنفذ علما» التفضيل ، وإن كان هو الظاهر بل يريد مجرد الوصف ؛ ويدلّ على ذلك قوله : أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته ، ولكن كان ينبغي أن يصرّح بذلك ، فيقول : وليس المراد التفضيل.
وروي «حيث يجعل» بفتح الثاء ، وفيها احتمالان :
أحدهما : أنها فتحة بناء ؛ طردا للباب.
والثاني : أنها فتحة إعراب ؛ لأنها معربة في لغة بني فقعس ، حكاها الكسائي.
[وفي «حيث» ستّ لغات : حيث : بالياء بتثليث الثاء ، وحوث : بالواو ، مع تثليث الثاء](٣).
وقرأ (٤) ابن كثير ، وحفص عن عاصم «رسالته» بالإفراد ، والباقون : «رسالاته» بالجمع ، وقد تقدّم توجيه ذلك في المائدة (٥) ؛ إلا أن بعض من قرأ هناك بالجمع ـ وهو حفص ـ قرأ هنا بالإفراد ، وبعض من قرأ هناك بالإفراد ـ وهو أبو عمرو ، والأخوان ، وأبو بكر ، عن عاصم ـ قرأ هنا بالجمع ، ومعنى الكلام : «الله أعلم بمن هو أحقّ بالرّسالة».
قوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) قيل : المراد بالصّغار ذل وهوان يحصل لهم في الآخرة.
__________________
(١) ينظر : الدرر ٣ / ١٢٩ ، مغني اللبيب ١ / ١٣٢ ، همع الهوامع ١ / ٢١٢ ، الدر المصون ٣ / ١٧٣.
(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص (٢٢) ، خزانة الأدب ٣ / ١٥ ، ٧ / ٨ ، ١٣ ، ١٧ ، الدرر ٣ / ١٢٧ ، شرح شواهد المغني ١ / ٣٨٤ ، لسان العرب (قشعم) ، مغني اللبيب ١ / ١٣١ ، همع الهوامع ١ / ٢١٢ ، الدر المصون ٣ / ١٧٣.
(٣) سقط في ب.
(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٩.
(٥) الآية : ٦٧.