راجع إلى الله بقلبه. ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم داود (١) كما قال تعالى عنه : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ).
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) فقوله : «منّا» إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) مستقبل (٢) بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيدا خلعة ، فإذا قال القائل : آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاصّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ونظيره قوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) [التوبة : ٢١] فإنّ رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصّه (٣) ، والمراد بالفضل النبوة والكتاب ، وقيل : الملك ، وقيل : جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خصّ به (٤).
قوله : «يا جبال» محكيّ بقول مضمر (٥) ، ثم إن شئت قدرته مصدرا ويكون بدلا من «فضلا» على جهة تفسيره به كأنه قيل : آتيناه فضلا قولنا يا جبال ، وإن (٦) شئت جعلته مستأنفا.
قوله : «أوّبي» العامة على فتح الهمزة ، وتشديد الواو ، أمرا من التّأويب وهو
__________________
(١) الفخر الرازي ٢٥ / ٢٤٤ و ٢٤٥.
(٢) في «ب» هكذا وما في «أ» والفخر الرازي مستقل وهو الأصح.
(٣) المرجع السابق.
(٤) البغوي والخازن ٥ / ٢٨٢ و ٢٨٣.
(٥) هذا قول أبي البقاء في التبيان ١٠٦٤ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٤٣ والدر المصون ٤ / ٤١٦.
(٦) الحق أن الاستئناف لا يجوز إلا بعد أن يقدر القول المضمر هذا ومن الإمكان أن يقدر مصدرا أو فعلا فإن قدر فعلا لنا فيه وجهان : أحدهما : ما ذكره وهو الاستئناف. والثاني : جعله بدلا من «آتينا» فكلمة الجبال محكية بقول إما مصدر وإما فعل. انظر ذلك في الكشاف ٣ / ٢٨١ والدر المصون ٤ / ٤١٦ والبحر ٧ / ٢٦٢.