قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) لما بين حال الأولين قال للحاضرين : ألم يروا الباقون ما جرى على من (١) تقدم منهم. قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا) كم هنا خبرية (٢) فهي مفعول «بأهلكنا» تقديره كثيرا من القرون أهلكنا وهي معلّقة (٣) «ليروا» ذهابا (٤) بالخبرية مذهب الاستفهامية ، وقيل : بل «يروا» علمية و «كم» استفهامية كما سيأتي بيانه (٥) و (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من «كم» (٦) قال ابن عطية و «كم» هنا خبريّة و «أنهم» بدل منها ، والرؤية بصرية (٧) قال أبو حيان وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية (كانت) (٨) في موضع نصب «بأهلكنا» ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون «أنهم» بدلا منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت «أهلكنا (هم)» (٩) على «أنهم» لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاما لكنّ ابن عطية توهم أن (يروا) مفعولة «كم» فتوهم أن قوله : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون. وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في (علم) (١٠) العربية (١١). قال شهاب الدين: وهذا (١٢) الإنحاء عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول : كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون : «ملكت كم عبد» (١٣) فلم يلزم الصدر (١٤) فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل «كم» منصوبة «بيروا» و «أنهم» بدل منها. وليس هو ضعيفا في العربية (١٥) حينئذ.
__________________
(١) في «ب» ألم ير. وفي الرازي : أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم.
(٢) قاله السمين في الدر ٤ / ٥٠٩ وأبو البقاء في التبيان ١٠٨١ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٩٤ والزجاج في معانيه ٤ / ٢٨٥ ومكي في المشكل ٢ / ٢٢٥ والنحاس في الإعراب ٣ / ٣٩٣ و ٣٩٢ والقرطبي ١٥ / ٢٤.
(٣) الكشاف ٣ / ٣٢١.
(٤) في «ب» إذهابا.
(٥) وهو قول الفراء في معانيه ٢ / ٣٧٦ وقد أجاز الوجه الأول أيضا انظر : المرجع السابق.
(٦) معاني الفراء ٢ / ٣٧٦ ومعاني الزجاج ٤ / ٢٨٥ والبيان ٢ / ٢٩٤ والمشكل ٢ / ٢٢٥ والتبيان ١٠٨١ والكشاف ٣ / ٣٢١.
(٧) البحر المحيط ٧ / ٣٣٣.
(٨) سقط من «ب».
(٩) زيادة من «ب» على البحر و «أ».
(١٠) زيادة من «أ».
(١١) وانظر : البحر المحيط ٧ / ٣٣٣ مع اختلاف يسير في الألفاظ.
(١٢) الدر المصون ٥١٠ / ٤.
(١٣) فتكون مفعولا به كما ارتأى ابن عطية. وهذا الموقف من السمين يجعلنا نحكم بأنه أيد رأي ابن عطية وخالف رأي أستاذه أبي حيان.
(١٤) في «ب» المصدر تحريف.
(١٥) الحقيقة أن «كم» بنوعيها الخبرية والاستفهامية تلزم الصدر وقد رأى ابن عصفور فيما نقله عنه ابن هشام في المغني في : «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» و «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» رأى ـ