يقدر على توصية (ما) (١) ولو كانت بكلمة يسيرة ، ولأن الوصية (٢) قد تحصل بالإشارة ، فالعاجز (٣) عنها عاجز عن غيرها. وقوله : (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) بيان لشدة الحاجة إلى التوصية ، ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بفتح الواو (٤). وهي القبور واحدها جدث ، وقرىء من الأجداف (٥) بالفاء. وهو لغة في الأجداث يقال : جدث ، وجدف كثمّ وفمّ ، وثوم ، وفوم (٦).
فإن قيل : أين (٧) يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال؟.
فالجواب : أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه من ذلك الموضع وهو جدثه.
قوله : (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي يخرجون من القبور أحياء. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية : ينسلون (٨) بضم السين ، يقال : نسل الثعلب ينسل وينسل إذا أسرع في عدوه ، ومنه قيل للولد : نسل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه (٩).
فإن قيل : المسيء (١٠) إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رجلا ويؤخر أخرى والنّسلان سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك؟.
فالجواب : ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : «إذا هم ينسلون» أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
فإن قيل : قال في آية (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) وقال ههنا : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين : «إذا هم» يقتضي أن يكونا معا.
__________________
(١) سقط من ب.
(٢) في ب التوصية وهو الموافق للرازي.
(٣) في ب والعاجز بالواو.
(٤) ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢١٢ وهي من الشواذ وانظر كذلك الزمخشري في كشافه ٣ / ٣٢٥.
وقد أنكر الزجاج هذه إن قرئت فلم يعترف بأن قارئا قرأها بالفعل فقال : «وما قرأ أحد أحسن صوركم ولا قرأ أحد ونفخ في الصور من وجه يثبت» ٤ / ٢٩٠.
(٥) ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣ / ٣٢٥ وأبو حيان في البحر ٧ / ٣٤١.
(٦) انظر : الإبدال لابن السكيت ١٢٥ : ١٢٧ وأمالي القالي ٢ / ٣٤.
(٧) الرازي ٢٦ / ٨٨.
(٨) لم أجدها عنه في المتواتر انظر : مختصر ابن خالويه ١٢٥ والكشاف ٣ / ٣٢٦.
(٩) انظر : اللسان : «٤٤١٣» والمصدر النّسلان.
(١٠) الرازي ٢٦ / ٨٧ و ٨٨.