فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه ، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة ، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخييلية (١) كقول امرىء القيس : [البسيط]
٤٢١٦ ـ أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي |
|
ومسنونة زرق كأنياب أغوال (٢) |
ولم ير أنيابها ؛ بل ليست موجودة ألبتة ، قال ابن الخطيب : وهذا هو الصحيح ؛ وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النساء : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين بالقبح وتشويه الخلقة ، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئا (شديد (٣) الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئا) حسنا قالوا : إنه ملك من الملائكة (٤). قال ابن عباس : هم الشياطين بأعيانهم شبهه بها لقبحه.
قوله : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) ، والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزّيادة عليه (٥).
فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟
فالجواب : أن المضطر ربما استروح من الضّرر (٦) بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم
__________________
ـ رؤوس الشياطين ويعنى بها الحيات وأكثر ما ينبت في بلاد بني شبابة. والمعازب الأماكن البعيدة ، والشدوف : الشخوص ومخطوف الحشا ضامره ، وزرم : لا يثبت في مكان ومعناه أنه يرقب شخوص هذه الأشجار يحسبها ناسا وهو في خوف لا يكاد يستقر في مكان وأتى بالبيت حتى يقول : إن رؤوس الشياطين يطلق على ثمر هذا الشجر المسمى بالصوم. وانظر : اللسان : «ص وم» ٢٥٣٠ والبحر ٧ / ٣٦٣ وأمالي القالي ١ / ٢٥ والخصائص ٣ / ٧٩ وديوان الهذليين ١ / ١٩٤ وانظره هو وما قبله في مجمع البيان ٧ / ٩٦ ، وورد في مجمع البيان : المعارم : وهي النقط السوداء في أذن الشاة الضائنة وورد فيه يرقبه.
(١) الكشاف ٣ / ٣٤٣ والبحر ٧ / ٣٦٣.
(٢) من الطويل والمشرفيّ نسبة إلى مشارف الشام كانت تصنع في قراها السيوف والمسنون المحدد المصقول. وشاهده بلاغي حيث شبه تشبيها وهميا وهو غير المدرك بإحدى الحواس الخمس فإن أنياب الغول مما لا يدركه الحس لعدم تحققها. وانظر : دلائل الإعجاز ١٤٩ ومعاهد التنصيص ١ / ١٣٤ والبحر ٧ / ٣٦٣ وكامل المبرد ٣ / ٩٦ وفتح القدير للشوكاني ٤ / ٣٩٨ ومجمع البيان للطبرسي ٧ / ٦٩٧ وديوانه ٣٣.
(٣) ما بين المعقوفين كله ساقط من «ب» وهو في الرازي و «أ».
(٤) الرازي ٢٦ / ١٤٢ وانظر بيت امرىء القيس أيضا فيه وفي زاد المسير ٧ / ٦٣ واللسان : «غ ول».
(٥) قاله في اللسان : «م ل أ» ٤٢٥٢.
(٦) في الرازي : استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر.