القصة كانت على وجه يدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدّة مصابرته في طاعة الله تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) فثبت أن الذي نختاره (١) أولى.
الثالث : أنه لما كان مقدمة الآية دالة على مدح داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وتعظيمه ومؤخرتها أيضا دالة على ذلك فلو كانت الواسطة دالة على المقابح والمعايب لجرى مجرى أن يقال : فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله تعالى يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة له في أرضه وصوب أحكامه فكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب.
ورابعها : أن بعض القائلين ذكر في هذه الآية أن داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ تمنى (٢) أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار ، وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه (الصلاة و) السلام الابتلاء فأوحى الله إليه إنك مبتلى في يوم كذا فبالغ في الاحتراز ، ثم وقعت الواقعة فنقول : إن حكايتهم تدلّ على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه ، فالسعي في قتل النفس (بغير الحق)(٣) والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة بحيث إن الحكاية التي ذكروها يناقص أولها آخرها.
وخامسها : أن داود عليه (الصلاة و) السلام (تمنّى (٤) أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية) قال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) استثنى الذين آمنوا من البغي. فلو قلنا : إنه كان موصوفا بالبغي لزم أن يقال : إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.
وسادسها : حضرت في مجلس وفيه بعض أكابر المسلمين وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك فقلت له : لا شك أن داود عليه (الصلاة و) السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل وقال الله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، ومن مدحه الله (تعالى(٥) بمثل) هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في المطعن فيه وأيضا فبتقدير أنه ما كان من الأنبياء فلا شك أنه كان مسلما ؛ وقال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ
__________________
(١) في ب يختاره. وما هو أعلى من «أ» موافق للرازي.
(٢) كذا في «أ» والرازي وفي ب تميز.
(٣) سقط من ب.
(٤) ما بين القوسين كله سقط من ب.
(٥) كذلك وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٦ / ١٩١.