قوله : «كلوا» على إضمار القول أي قال الله أو الملك كلوا من (١) رزق ربكم. وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته (٢). قوله : (بَلْدَةٌ) أي بلدتكم بلدة (طيبة) (٣) وربكم (رَبٌّ غَفُورٌ) والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة (٤).
قال ابن زيد : لم ير في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حيّة ولا عقرب ولا وباء ولا وخم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها (٥) من طيب الهواء ، فذلك قوله: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي طيبة الهواء (وَرَبٌّ غَفُورٌ)(٦) قال مقاتل : وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب (٧). وقيل : ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة (٨) وقرأ رويس (٩) بنصب «بلدة ، ورب» على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا (١٠). وجعله أبو البقاء مفعولا به والعامل فيه «اشكروا» (١١) وفيه نظر ؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم ربّا غفورا (١٢) ، ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال : (فَأَعْرَضُوا) من كمال ظلمهم ، الإعراض بعد إبانة الآية كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة: ٢٢] قال وهب : أرسل (١٣) الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعم الله عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله عزوجل علينا نعمة ، فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك قوله عزوجل : فأعرضوا ، ثم ذكر كيفية الانتقام منهم كما قال تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة : ٢٢] وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلا غرّق أموالهم وخرّب دورهم.
قوله : (سَيْلَ الْعَرِمِ) العرم فيه أوجه :
أحدها : أنه من باب إضافة الموصوف لصفته (١٤) في الأصل إذ الأصل : السّيل العرم ، والعرم الشديد وأصله من العرامة ، وهي الشّراسة والصعوبة وعرم فلان فهو عارم وعرم وعرام الجيش منه (١٥).
__________________
(١) الدر المصون ٤ / ٤٢٧ و ٤٢٨.
(٢) تفسير الرازي ٢٥ / ٢٥٠ و ٢٥١.
(٣) سقط من «أ».
(٤) في «ب» بسبخة.
(٥) في «ب» كله بالتذكير.
(٦) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٢٨٧.
(٧) المرجع السابق.
(٨) وهو رأي الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥١ في تفسيره.
(٩) في «ب» ورش وهو تحريف ولم ينقل عنه وإنما المراد ما ذكره أعلى.
(١٠) ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢١ والزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٨٥ بدون نسبة وهي قراءة عشرية لم يجىء بها في الإتحاف ولا في النشر شاذة من ناحية الرواية لا من جهة القياس اللغوي.
(١١) التبيان ١٠٦٦ ولكنه جعلها شاذة.
(١٢) الدر المصون ٤ / ٤٢٨.
(١٣) ذكره في زاد المسير ٦ / ٤٤٤.
(١٤) قاله أبو حيان ٧ / ٢٧١ والسمين في الدر ٤ / ٤٢٨.
(١٥) قاله في اللسان ٢٩١٣.