وقال تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣]
وثالثها : قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) يفيد الحصر ، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر فكان حمله على حسنة الآخرة أولى.
قوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) قال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة ، وفيه حثّ على الهجرة من البلد الّذي يظهر فيه المعاصي ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(١) [النساء : ٩٧].
وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي (٢) فليهرب ، وقال أبو مسلم (٣) : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية (٤) الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] وقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣]. قال ابن الخطيب : والأول عندي أولى لأن قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٥) لا يليق إلا بالأول.
قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى ، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا (٦). قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير نهاية ؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب (٧) قال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : كل مطيع يكال له كيلا أو يوزن له (٨) وزنا إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثيا ، يروى : أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصبّ عليهم الأجر صبّا قال الله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما ذهب به أهل البلاء من الفضل (٩).
__________________
(١) وانظر البغوي ٦ / ٦٩ ، ٧٠.
(٢) في البغوي : ببلد فليهرب منها. وانظر : البغوي المرجع السابق.
(٣) هو أبو مسلم الأصفهاني وقد ترجم له.
(٤) خشية الله تصحيح من الرازي. وفي النسختين : حسنة الله.
(٥) كذا في كتابه وفي ب : إنما يليق بالأول. وانظر هذا في الرازي ٢٦ / ٢٥٣.
(٦) البغوي ٦ / ٦٩ و ٧٠.
(٧) هذا رأي الرازي في ٢٦ / ٢٥٤.
(٨) كذا رواه البغوي وفي القرطبي : قال أهل العلم كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا ١٥ / ٢٤١.
(٩) البغوي ٦ / ٧٠ والقرطبي السابق.