من استدلاله يعمه وعذاب القبر ، وعلى كل فلا بأس بذكر ما تمسك به والجواب عنه ، وهو امران :
الاول قوله تعالى : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى ) ، تقرير الاستدلال بها انه تعالى حصر الموت فى الجنة لاهلها فى موتة واحدة هى الموتة الاولى ، ولو عذبوا فى القبر لزم ان يحيوا فيه ثانية لان الميت لا يحسّ الم العذاب ولا يصدق عليه انه معذب ، ولو حيّوا ثانية فى القبر لذاقوا موتتين لانهم لا يبقون فى القبر احياء الى يوم القيامة ، والتالى باطل لان الآية تنفى عنهم الا موتة واحدة ، فلا يحيون ثانية فى القبر حتى يعذبوا فيه.
والجواب عنه أولا ان الاستثناء فى الآية منقطع لانه لو كان متصلا لزم ان يكون الموتة الاولى فى الجنة لان المستثنى منه هو الموت فى الجنة ، والاستثناء المنقطع لا يفيد الحصر كما يقال : ما جاءنى القوم الا حمارا فانه ينفى المجىء عن القوم ويثبته للحمار لا انه ينفى المجىء عن جميع القوم ويثبته للحمار فقط ، وكما يقال : ما رأيت احدا من اهل البصرة الا رجلا من اهل الكوفة فانه يثبت الرؤية على رجل من اهلها ولا ينفيها عن غيره من اهلها ، فمعنى الآية انهم لا يذوقون الموت فى الجنة اصلا ابدا لكنهم ذاقوا الموتة الاولى التى هى فى الدنيا ، ولعل الوجه فى هذا الاستدراك التنبيه على ان الحياة الابدية الخالصة فى الجنة لا يحصل للانسان الا بعد رؤية هموم الدنيا وغمومها واهوال الموت فيها والسير فى عقبات الآخرة والمرور عليها.
وثانيا لا يلزم ان يحيى البدن ثانية للعذاب فى البرزخ ، بل يمكن ان يعذب العذاب العقلى بالنفس والعذاب الحسى بتعلقها بالجسم البرزخى فلا يتحقق الا موتة واحدة.
اقول : فى هذا الوجه اشكال ، وهو ان ظواهر بعض الاخبار فى الكافى وغيره ان الروح تلقى فى الميت للمساءلة فى القبر ، فالمساءلة بهذا البدن بعد تعلق الروح به ، فتنزع منه ثم تجعل فى جنة البرزخ او جحيمه فيحصل الموتتان.
وثالثا ان الاولى لها ثانية لاقتضاء معنى الاضافة فيها ذلك والا فلا وجه لوصف الموتة بها ، بل الوجه لو لا ذلك ان يقال : الا موتة واحدة.