الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الامور بينهم ، فيخبرهم بأشياء تحدّثه وذلك في وجوه شتّى ، فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفطنة الروح مع قذف في قلبه ، لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤدّيه إلى الكاهن ، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف. وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذلك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وإنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء ، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله تعالى لإثبات الحجّة ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر ما يحدث الله في خلقه ، فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر يخبر به هو ما أدّاه إليه شيطانه ممّا سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة ، واليوم إنّما يؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً للناس ممّا يتحدّثون به ، والشياطين يؤدّي إلى الشياطين ما تتحدّث في البعد من الحوادث من سارق سرق ، وقاتل قتل ، وغائب غاب ، وهم أيضاً بمنزلة الناس صدوق وكذوب» (١) الخبر.
بناءً على رجوع قيد مع قذف في قلبه إلى جميع الوجوه الأربع المذكورة ، أو على كون المراد من قوله : «انقطعت الكهانة» انقطاع ماهيّة الكهانة على تقدير رجوع القيد إلى الأخير كما هو الأظهر ، نظراً إلى الأصل المقرّر في الاصول ، ولكنّ الإنصاف أنّه ظاهر في انقطاع الفرد الكامل منه ، وهو ما كان مدرك المخبر بالغائبات في أخبار الأخذ من الجنّ ، مع كون مدرك الجنّ في قذفه الخبر في قلب الكاهن استراق السمع من الملائكة ، بقرينة ما في صدر الرواية من قوله : «كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه» إلى قوله : «فيخبرهم بأشياء تحدّثه وذلك في وجوه شتّى» فإنّه بظاهره يفيد أنّه من حيث كونه كاهناً كان حاكماً يحتكمون إليه ، وكان يخبرهم من هذه الحيثيّة بجميع الوجوه الأربع المذكورة الّتي لا مدخليّة للشيطان في الثلاث الاولى منها ، فإنّ
__________________
(١) الاحتجاج ٢ : ٢١٨ ـ ٢٢٠.