عدالة هذه الأمة ، وعن خيريتهم ، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجّة ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتّصاف كل واحد منهم بها ، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الأئمة المعصومين.
فالجواب : أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره ، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين :
الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات ، وهذا من فعل العبد ، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ أنه جعلهم وسطا ، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطا غير كونهم عدولا ، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال.
الثاني : أن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك ، وهو خلاف الأصل.
__________________
ـ في هذا الصّدد لم يلجأ معظم المصنّفين إلى أدلّة لإثبات دعوى الجمهور وهي إمكان الإجماع ، بل اكتفوا بإيراد شبه الخصوم ثم هدمها ، وفي ذلك إشعار بأن دعواهم بلغت من البداهة إلى حدّ لا تحتاج فيه إلى دليل أو تنبيه ، وربّ سكوت أفصح من كلام.
قالوا : أولا لو أمكن أتّفاقهم ، لأمكن نقل الحكم إليهم جميعا ؛ لأنّ اتفاقهم فرع تساؤلهم من نقل الحكم إليهم ، فلا يتحقّق إلّا بعد تحقّقه ، ونقل الحكم إليهم جميعا باطل ؛ لأن انتشارهم في الأقطار يمنع منه عادة ، فبطل المقدّم وثبت نقيضه ، وهو عدم إمكانه.
والجواب : قولكم «انتشارهم في الأقطار» يمنع من نقل الحكم إليهم ممنوع ؛ فإنّه لا منع في المتواتر ؛ كالكتاب فهو لشهرته لا يخفى على أحد ، ولا في أوائل الإسلام ؛ لأنّ المجتهدين كانوا قليلين ، فيتيسّر نقل الحكم إليهم ، ولا بعد جدّهم في الطّلب والبحث ، فإن المطلوب لا يخفى على الطّالب الجادّ وجدّهم في طلب العلم لا ينكره أحد ، فمنهم من رحل من أصفهان ببلاد الفرس إلى «معرّة النّعمان» ب «الشام» على بعد ما بين البلدين ، ولم يكن له من غرض سوى تحقيق بعض مسائل العلم ، وأمثال هذا من طلّاب العلم من المسلمين كثير ، تقرأ تاريخ حياتهم فتجدهم تحملوا المشاقّ ، واقتحموا العقبات ، وساحوا في أرجاء الدّنيا من «الفرس» ، و «العراق» ، و «الشام» ، و «مصر» ، و «الأندلس» ؛ ليدرسوا على مشاهير العلماء ، وليطفئوا نيران ظمئهم إلى العلوم بالريّ من مناهله ؛ وبالجملة ؛ لم نجد أمة بذلت في هذا المضمار مثل ما بذلت هذه الأمة.
قالوا ثانيا : لو أمكن اتفاقهم ، فإمّا أن يكون عن قاطع ، أو ظنّي ؛ إذ لا بد للإجماع من مستند ، وليس وراءهما مستند يستند إليه ، والتالي بشقيه باطل ، أمّا القاطع : فلأن العادة تحيل عدم الاطلاع عليه ؛ لتوفّر الدّواعي على نقله ، ولو اطلع عليه لنقل ، لكنه لم ينقل ، فلم يطلع عليه ، فليس الإجماع عن قطعي ، والظنيّ تحيل العادة الاتفاق عليه ؛ لاختلاف القرائح ، وتباين الأنظار.
والجواب بالمنع فيهما ، أمّا القاطع : فلأنه لا يجب نقله عادة ؛ إذ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجماع الذي هو أقوى منه ؛ لعدم احتمال النسخ ، بخلاف القاطع ، وأمّا الظنيّ : فلأنه قد يكون جليّا فتقبله القرائح فتتّفق عليه ، واختلاف القرائح والأنظار إنّما يمنع الاتّفاق في الظنّ الخفيّ ، دون الجليّ.