سلّمنا اتصافهم بالخيرية ، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ ، لكنه من الصّغائر ، فلا يقدح ذلك في خيريتهم ، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه ـ تعالى ـ حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس ، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة.
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ، ولكن الله ـ تعالى ـ بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النّاس ، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة ، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك ، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّل ، وذلك لا نزاع فيه ؛ لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة.
فلم قلت : إنهم في الدنيا كذلك؟
سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا ، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية ، لأن الخطاب](١) مع من لم يوجد محال ، وإذا كان كذلك ، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم ، فدلّت الآية على أن إجماع [أولئك](٢) حق ، فيجب ألّا نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه.
لكن ذلك لا يمكن [إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم ، وعلمنا بقاء كل واحد](٣) منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلىاللهعليهوسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع.
والجواب عن قولهم : الآية متروكة الظاهر.
قلنا : لا نسلّم فإن قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) يقتضي أنه ـ تعالى ـ جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة.
وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه ، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلا في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا ، فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا : إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع ؛ لأن قوله : (جَعَلْناكُمْ) خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده ، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلا ، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه ، فوجب أن يبقى معمولا به في حقّ الباقي ، وهذا معنى ما قاله العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة ، فإذا كنّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم.
مثاله : أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا قال : إن واحدا من أولاد فلان لا بد
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : القوم.
(٣) سقط في أ.