فهم كلام سيبويه ، فقائل : هو تفسير معنى ، وقيل : تفسير إعراب ، فيكون في الكلام حذفان : حذف من الأوّل ، وهو حذف «داعيهم» ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثّاني ، وهو حذف المنعوق ، وقد أثبت نظيره في الأول ؛ فشبّه داعي الكفّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبّه الكفّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه ، إلّا أصواتا لا يعرفون ما وراءها ، وفي هذا الوجه حذف كثير ؛ إذ فيه حذف معطوفين ؛ إذ التقدير الصناعيّ : «ومثل الّذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق بالمنعوق به».
وقد ذهب إليه جماعة ، منهم : أبو بكر بن طاهر (١) ، وابن خروف (٢) ، والشّلوبين (٣) ؛ قالوا : العرب تستحسن هذا ، وهو من بديع كلامها ؛ ومثله قوله : [(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢]](٤) تقديره : «وأدخل يدك في جيبك ، تدخل ، وأخرجها تخرج» ؛ فحذف «تدخل» ؛ لدلالة «تخرج» وحذف «وأخرجها» ؛ لدلالة «وأدخل» ، قالوا : ومثله قوله :
٨٩٥ ـ وإنّي لتعروني لذكراك فترة |
|
كما انتفض العصفور بلّله القطر (٥) |
لم يرد أن يشبّه فترته بانتفاض العصفور حين بلّله القطر ؛ لأنّهما ضدّان ؛ إذ هما حركة وسكون ، ولكنّ تقديره : إنّي إذا ذكرتك ، عراني انتفاض ، ثمّ أفتر ؛ كما أن العصفور إذا بلّله القطر ، عراه فترة ، ثم ينتفض ، غير أنّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه.
وهذه الأقوال كلّها ، إنّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السّابق بجزء من الكلام المشبّه به.
أمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملة بجملة ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر إلى المعنى ، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب ؛ قال الرّاغب : «فلمّا شبّه قصّة الكافرين في إعراضهم عن الدّاعي لهم إلى الحقّ ، بقصّة النّاعق قدّم ذكر النّاعق ؛ لينبني عليه ما يكون منه ، ومن المنعوق به».
__________________
(١) محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي أبو بكر المعروف بالحزب توفي سنة ٥٨٠ ه. ينظر البغية : ١ / ٢٨.
(٢) علي بن محمد بن علي بن محمد نظام الدين أبو الحسن ابن خروف الأندلسي النحوي توفي سنة ٦٠٩ ه. ينظر البغية : ٢ / ٢٠٣.
(٣) عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأستاذ أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين ـ بفتح المعجمة واللام وسكون الواو وكسر الموحدة وبعدها تحتانية ونون ـ ومعناه بلغة أهل الأندلس الأبيض الأشقر. كان إمام عصره في العربية بلا مدافع توفي في العشر الأخير من صفر سنة خمس وأربعين وستمائة. ينظر البغية : ٢ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.
(٤) سقط في ب.
(٥) تقدم برقم ٤٢١.