خبر واحد ، إلّا أن الأمّة تلقّته بالقبول ، فالتحق بالمتواتر.
فالجواب : سلّمنا أن الأمّة تلقّته بالقبول ، لكن على وجه الظّنّ ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظّنّ ، فمسلّم إلّا أن ذلك يكون إجماعا منهم على أنه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به ، وإن كان على وجه القطع فممنوع ؛ لأنهم لو قطعوا بصحّته ، مع أنه من باب الآحاد ، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ، وإنه غير جائز.
وقال آخرون : إنها نسخت بالإجماع ، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن ؛ لأن الإجماع يدلّ على أن الدّليل النّاسخ كان موجودا إلّا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدّليل ، ولقائل أن يقول : لمّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ ؛ فحينئذ : لم يثبت الإجماع.
__________________
ـ «ثانيا» : أن النسخ كالتخصيص من حيث البيان ، وبما أن التخصيص جائز بخبر الواحد ، فكذلك النسخ.
«ثالثا» أن نسخ القرآن بخبر الواحد جائز ؛ كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) فإنه نسخ بما روي أنه صلىاللهعليهوسلم «نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» وهو خبر آحاد ، وإذا جاز نسخ القرآن به ـ فالخبر أجدر.
«الجواب عن هذه الأدلّة» : «أما عن الأول» : فلأنّه خبر المنادي كان محفوفا بالقرائن ؛ من ندائه بحضرة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على رءوس الأشهاد في مثل هذه الواقعة العظيمة ، وهذه قرينة صادقة عادة فيفيد القطع ، فيجب المصير إليه ؛ لما علم من امتناع ترك القاطع بالمظنون ، وكلامنا في الخبر الغير المحفوف. «وأما عن الثاني» : فيمنع أن يكون النسخ كالتخصيص ؛ لأن التخصيص بيان وجمع للدّليلين ، والنسخ إبطال ورفع ، على أن هذا الدليل لو سلّمناه ، فغاية ما يلزم منه الجواز لا الوقوع ، والنّزاع إنما هو في الثاني دون الأول.
«وأما عن الثالث» : فلا نسخ ؛ إذ المعنى في الآية : لا أجد الآن ؛ لأن المضارع ظاهر في الحال ، ولو سلّم الارتفاع ، فيكون للإباحة الأصلية ؛ لأن عدم الوجدان يوجب إباحة أصلية ، ورفعها ليس بنسخ واحتجّ النافون بالمعقول والمنقول : «أما المعقول» : فلأن الآحاد لا يقوى على رفع المتواتر ؛ لأن الأول ظني ، والثاني قطعي ، وحيث لا مساواة فلا نسخ ؛ لعدم التعارض.
«وأما المنقول» : فما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أنه قال : «لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت» وأيضا : ما روي عن علي رضي الله عنه ؛ أنه قال : «لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا بقول أعرابي بوّال على عقبيه» ووجه الاحتجاج بقول هذين الصاحبين : أنّهما لم يعملا بخبر الواحد ، ولم يحكما به على القرآن ، وما ثبت من السّنّة تواترا.
ينظر : البحر المحيط للزركشي ٤ / ١٠٩ ، البرهان لإمام الحرمين ٢ / ١٣٠٧ ، سلاسل الذهب للزركشي ٣٠٢ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣ / ١٣٩ ، نهاية السول للإسنوي ٢ / ٥٧٨ ، منهاج العقول للبدخشي ٢ / ٢٥٢ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ٨٨ ، التحصيل من المحصول للأرموي ٢ / ٢٣ ، المنخول للغزالي ٢٩٢ ، المستصفى له ١٢٤ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٣ / ١٣٩ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ٢ / ١١١ ، المعتمد لأبي الحسين ١ / ٣٩٢ ، إحكام الفصول في إحكام الأصول للباجي ٤١٨ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٤ / ٥٠٥ ، التحرير لابن الهمام ٢٨٨ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ٢ / ٣٦ ، ميزان الأصول للسمرقندي ٢ / ١٠٠٦ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ٣ / ٦٠.