وأجاب أبو مسلم (١) عن الأوّل : بأنّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب.
وعن الثّاني : بأنّا لا نسلّم أنّ هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا ، فقوله : «أحلّ لكم» معناه : أحلّ لكم ما كان محرّما على غيركم.
وعن الثالث : بأنّ تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى ـ عليهالسلام ـ ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا ، ولم ينقل زوال تلك الحرمة ، فكان يخطر ببالهم أنّ تلك الحرمة باقية علينا ، لأنّه لم يوجد في شرعنا ما دلّ على زوالها ، وممّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وكان مما كتب على الذين من قبلنا هذه الحرمة ؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فشدّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور ، فقال تبارك وتعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أبيّن لكم إحلال الأكل والشّرب والمباشرة طوال اللّيل ، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذّاتها ومصلحتها ؛ بالإمساك عن ذلك بعد النّوم ؛ كسنّة النصارى ، وأصل الخيانة : النّقص.
وعن الرابع : أن التوبة من العبد : الرّجوع إلى الله تعالى بالعبادة ، ومن الله سبحانه : الرّجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز ، فبيّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلا على من قبلنا ، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرّقيق» (٢) وقال عليه الصّلاة والسّلام : «في أوّل الوقت رضوان الله ، وفي آخره عفو الله» (٣) والمراد منه التخفيف بتأخير الصّلاة إلى آخر الوقت ؛ ويقال أتاني هذا المال عفوا ، أي : سهلا.
وعن الخامس : بأنّهم كانوا بسبب تلك الشّبهة ممتنعين عن المباشرة ، فبيّن الله
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٨.
(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ١٠١) كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة (١٥٧٤) والترمذي (٣ / ١٦) كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الذهب والورق (٦٢٠) والنسائي (٥ / ٣٧) رقم (٢٤٧٧) وابن ماجه (١ / ٥٧٠) كتاب الزكاة باب زكاة الورق والذهب (١٧٩٠) وأحمد (١ / ٩٢) والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٣٤٧) وابن خزيمة (٢٢٨٤) والطبراني في «المعجم الصغير» (١ / ٢٣٢) و (٢ / ١٣٠) وذكره الحافظ ابن حجر في «الفتح» (٨ / ٨٨) وفي «تلخيص الحبير» (٢ / ١٤٩).
(٣) أخرجه الترمذي (١ / ٣٢١) كتاب الصلاة : باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (١٧٢) والدارقطني (١ / ٢٤٦) من طريق يعقوب بن الوليد المدني عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : (الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله). وقال الترمذي هذا حديث غريب.
قال الحافظ في «التلخيص» (١ / ١٠٨) : ويعقوب قال أحمد : كان من الكذابين الكبار وكذبه ابن معين وقال النسائي : متروك. وقال ابن حبان كان يضع الحديث وما روى هذا الحديث غيره وقال الحاكم العمل فيه عليه وقال البيهقي : يعقوب كذبه سائر الحفاظ ونسبوه إلى الوضع.