ومن الناس من قال : التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ثم إن ذلك صار منسوخا بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
واحتجوا عليه بالقرآن والأثر.
أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولا قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)](١) ثم ذكر بعده : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)
[البقرة : ١٤٢] ثم ذكر بعده : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخا بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
فلزم أن يكون قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) [متأخرا في النزول والدرجة عن قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل ، فثبت ما قلناه.
وأما الأثر فما](٢) روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن ، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن ، إنما المذكور في القرآن (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فوجب أن يكون قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ناسخا لذلك ، لا للأمر بالتوجّه إلى «بيت المقدس».
قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا ، إذا جعلته واليا له ، أو فلنجعلنّك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس.
قوله : «ترضاها» فيه وجوه :
أحدها : ترضاها : تحبّها وتميل إليها ؛ لأن الكعبة كانت أحبّ إليه من غيرها بحسب ميل الطبع ، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه.
وثانيها : «قبلة ترضاها» أي : تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية.
وثالثها : قال الأصم : أي : كل جهة وجّهك الله إليها ، فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا.
ورابعها : «ترضاها» أي : ترضى عاقبتها ؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام ، ممن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها ، أو مال يكتسبه.
قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «ولّى» يتعدى لاثنين :
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) سقط في أ.