ثانيها : لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون إلّا قتل أنفسكم ، فإنّ قتل الإنسان نفسه لا يحلّ ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمّا إذا كان آيسا من النّكاية ، وكان الأغلب أنّه مقتول ، فليس له الإقدام عليه ، وهذا منقول عن البراء ابن عازب (١) ، ونقل عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال في هذا : هو رجل يتنقّل بين الصفين (٢). وطعن بعضهم في هذا التّأويل ؛ وقال : هذا القتل غير محرم ، واحتجّ بأحاديث :
الأول : روي أنّ رجلا من المهاجرين حمل على صفّ العدوّ ؛ فصاح به الناس ؛ فألقى بيده إلى التّهلكة ؛ فقال أبو أيّوب الأنصاريّ : نحن أعلم بهذه الآية الكريمة ، وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد ، فلما قوي الإسلام ؛ وكثر أهله ؛ رجعنا إلى أهالينا ، وأموالنا ، ومصالحنا ؛ فنزلت الآية ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل ، والمال ، وترك الجهاد (٣). فما زال أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله ؛ حتّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية ، فتوفّي هنالك ، ودفن في أصل سور القسطنطينية ، وهم يستسقون به (٤).
وروي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر الجنّة ؛ فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله ، إن قتلت صابرا محتسبا؟ فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لك الجنة ؛ فانغمس في العدوّ ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وأنّ رجلا من الأنصار ألقى درعا كان عليه ، حين ذكر رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا ـ الجنة.
وروي أنّ رجلا من الأنصار تخلّف عن بني معاوية ، فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه ؛ فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدوّ ؛ فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك ؛ فذكروا ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال فيه قولا حسنا (٥).
وروي أنّ قوما حاصروا حصنا ؛ فقاتل رجل حتى قتل ؛ فقيل : ألقى بيده إلى
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١١٧.
(٣) أخرجه أبو داود (٢٥١٢) والترمذي (٤ / ٧٢ ـ ٧٣) والحاكم (٢ / ٢٧٥) والطيالسي في «مسنده» (٥٩٩) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٩١ ـ ٥٩٢) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب.
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣٧٤١ ـ ٣٧٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والطبراني وأبي يعلى.
(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٦٤ ـ ١٦٥.
(٥) انظر : «التفسير الكبير» للفخر الرازي (٥ / ١١٧).